أكتب اليوم فى موضوع تناوله الكثيرون بأقلام متخصصة حينا، وبمداد من العاطفة الوطنية والوازع الأخلاقى أحيانا. فى البداية أريد أن أميّز بين مفهوم الدعم الذى يشار إليه بالإنجليزية بلفظ subsidy والذى يقصد به شكل من أشكال المساعدات المالية أو الإعانات التى يستفيد منها قطاع اقتصادى بعينه، أو مؤسسة، أو عمل تجارى، أو أفراد، بهدف رئيس هو خفض الأسعار للمستهلك النهائى. وبين الدعم بمفهومه الواسع والذى يشار إليه بالإنجليزية بلفظ support وهو فى الأساس موضوع مقالنا اليوم.
أما الشكل الأول من الدعم فقد ساءت سمعته عبر العصور، وارتبط فى أذهان العامة بممارسات الأنظمة الشيوعية والاشتراكية التى تفرط فيها الدولة بالتدخل فى الشأن الاقتصادى، مفسدة آليات السوق وقوى العرض والطلب وجهاز الثمن بتعمّد تدخلها فى تسعير المنتجات وإحداث اضطرابات سعرية price distortions وذلك باستخدام أدوات مختلفة، منها ما هو عنيف ومباشر مثل التسعير الجبرى واحتكار الحكومة لتقديم السلع والخدمات مع إقصاء كل أشكال المنافسة من قبل وحدات القطاع الخاص.. ومنها ما تكتفى خلاله الحكومة بتقديم دعم مالى أو عينى إلى المنتجين أو المستهلكين أو أنظمة التوزيع للسلع والخدمات بغية كبح الأسعار لمجموعة من السلع المعروفة شعبيا وسياسيا بالسلع الاستراتيجية. الشكل الأخير هو الأكثر شيوعا حتى فى الأنظمة الرأسمالية والتى أصبحت تتقبل قدرا من التدخل الحكومى «الكينزى» (نسبة إلى الاقتصادى الإنجليزى جون ماينرد كينز صاحب النظرية العامة التى كان لها الفضل فى خروج العالم من الكساد الكبير، وهو الذى سمح للحكومات بخلق طلب فعّال فى الأسواق لإنقاذ النظام الرأسمالى من الانهيار) فى آليات عمل الأسواق. فمثلا ما زالت الحكومة الأمريكية تدعم الوقود عبر دعم المنتجين الذى ينتقل إلى المستهلك بما يحققه ذلك من وفورات قطاع النقل، وأثر ذلك إيجابيا على جميع أوجه النشاط الاقتصادى. ومازالت الحكومة الأمريكية تدعم المزارعين دعما نقديا لتخفيف مخاطر زراعة خمسة محاصيل رئيسية هى الذرة، فول الصويا، القمح، القطن، والأرز. ليس فى ذلك حرج حتى وإن تطور هذا الشكل من أشكال دعم الإنتاج والاستهلاك إلى التعرّض المباشر إلى أحد ثوابت مدارس الاقتصاد الحر وهو حرية التجارة، مما حدا بالرئيس الأمريكى مؤخرا إلى فرض رسوم حمائية (دعم سلبى) على واردات الصين من منتجات الحديد والألومنيوم.
الفلسفة الاقتصادية لأى دولة تظل سائدة ومقبولة حتى تصبح المصالح الوطنية للأنشطة الاقتصادية فى تلك الدولة فى مهب الريح. ما إن فُتحت الصين على العالم حتى انتشر مندوبوها وسماسرتها فى كل مكان، لإغراق العالم بمنتجات رخيصة ومحدودة الجودة فى البداية، ثم أصبحت تنافس فى جودتها مختلف المنتجات وهم من كل حدَب ينسلون. المنافسة الأوروبية والأمريكية مع الصين تحسم فى الغالب لصالح الأخيرة، وهو نوع من المخاطر الاستراتيجية التى يمكن أن تغيّر شكل العالم كله خلال سنوات، لذا نجد الدول المتقدمة تتخذ تدابير هيستيرية ــ أحيانا ــ فى محاولة يائسة للتصدّى للتيار الصينى الجارف. ليس أدل على ذلك من المد السياسى اليمينى المجنون فى أوروبا، وتفسّخ الاتحاد الأوروبى، والتحوّل الدرامى الشعوبى فى قمة النظام الرئاسى الأمريكى.. وهى جميعا فى نظرى مجرد توابع لزلزال الصين الذى بات يهدد كل الثوابت الغربية وينذر بتسونامى عالمى وشيك.
***
نعود إلى موضوع المقال، نبحث فى أسس ومتطلبات الدعم (بمفهومه الواسع) للصناعات الوطنية، فى ظل تلك الظروف المضطربة السابق الإشارة إليها. الركون إلى توافر الاحتياجات الاستهلاكية من خلال بوابات التجارة التقليدية هو تجسيد لغياب الوعى بخطورة وحساسية الوضع العالمى الانتقالى الذى نعيشه اليوم. التقلبات العنيفة التى تتعرّض لها أسواق السلع وخاصة المواد الأساسية بمعدل تكرار هو الأشد تسارعا فى التاريخ الحديث، هى أيضا عرض جانبى من أعراض السياسة الصينية الهادفة إلى تكوين احتياطى تاريخى من المعادن يسمح للصين بالسيطرة على صناعة أسواق تلك المعادن بصورة منفردة فى المستقبل القريب جدا. تلك التقلبات وهذا الاحتكار من شأنه أن يحد من حرية التجارة إلى حد بعيد، ويجعل الاعتماد على الإنتاج المحلى سواءً الزراعى أو الصناعى أمرا لابد منه ولو جاء ذلك على حساب التوسّع الجارف للنشاط الخدمى والاقتصاد العقارى الريعى.
الدعم الذى تتوقعه الصناعة ليس بالضرورة تدابير حمائية، ولا تدفقات نقدية بغير سقف زمنى يتحوّل معها النشاط الاقتصادى إلى ما يشبه النشاط الخيرى! فهو حينئذ دعوة مفتوحة للتواكل وغياب المنافسة وتردّى الإنتاج كنتيجة منطقية... لا أبدا، فالدعم المطلوب قد لا يعدو أن يتمثل فى تقديم الدولة تسهيلات فى إجراءات إصدار التراخيص، وعدم المغالاة فى فرض الضرائب والإتاوات خاصة المفروضة على الأراضى والمرافق، وعدم تثبيط النشاط الإنتاجى برفع أسعار الفائدة المصرفية بصورة تعجز المنتجين عن الوصول إلى التمويل الرخيص من ناحية، ومن ناحية أخرى تقدم بديلا سهلا للاستثمار الإيجابى هو عبارة عن ودائع وأذون خزانة مكدسة لا يتم تمرير فوائضها إلى أصحاب العجز التمويلى إلا فى أضيق الحدود. الدعم المطلوب قد يكون محاولة لحصول أصحاب الصناعات على حقهم فى المساواة فى أسعار منتجات الطاقة مع المنتجين المنافسين فى الأسواق العالمية، وفى الحصول على مصادر رخيصة للطاقة بالنسبة للصناعات كثيفة الاستهلاك، والتى أنشئت فى الأصل وفى كل دول العالم على توافر مصدر رخيص للطاقة مثل الكهرباء المولدة عبر المساقط المائية. بل ربما تواضعت أحلام المصنعين إلى أن يطلبوا ألا تفرض عليهم ضريبة مستترة لدعم مستهلكى الطاقة فى المنازل! وألا يتركوا فى منافسة غير عادلة بالمرة مع منتجات مستوردة تم تصنيعها بغير شهادة منشأ وتحت بئر السلم وبأسعار صفرية للطاقة والفائدة!
هنا يكون الدعم المطلوب مجرد حقوق طبيعية يجب توافرها لو أرادت الدولة بقاء النشاط الإنتاجى، وعدم الارتماء فى أحضان المستوردين الذين لا سلطة لهم على أسعار ولا وفرة المنتج المستورد، خاصة مع التغيير المستمر فى حركة ومعدلات نمو التجارة، بل وفى ظل المخاطر الجيوسياسية التى تعترض ممرات وطرق التجارة حول العالم.
***
الصناعة الوطنية فى كثير من الدول التى خضعت لنظم اقتصادية اشتراكية مثل مصر دفعت ثمنا مزدوجا لتلقى الدعم فى صورته التقليدية المحرّضة على التواكل والانغلاق. فهى من ناحية لم تتطور بشكل طبيعى لتقوى على المنافسة مع المنتج المستورد، وهى من ناحية أخرى تحرم من كل أشكال الدعم (الطبيعى) الذى تستحقه بعد أن خرجت من العباءة الاشتراكية كرد فعل عنيف لنبذ كل ما يتصل بكلمة «دعم» أيا ما كان مدلولها! كذلك فإن مؤسسات التمويل الدولية ساعدت فى ترسيخ هذا الوضع المختل، عندما لم تقف بفهم عميق على الخيط الرفيع الفاصل بين الدعم النقدى للمنتجات المحتكرة حكوميا، وتراجع الكفاءة فى الإنتاج وارتفاع التكاليف المباشرة وغير المباشرة بما كان له بالغ الأثر فى تحقيق خسائر تشغيلية ناتجة عن انخفاض السعر مقابل التكلفة. فالتهمة عادة يتحملها المستهلك وفاتورة البيع، بعد إجراء مقارنات غير منصفة مع أسعار ذات السلعة فى الدول الأكثر غنى، دونما اعتبار لغياب تماثل القوى الشرائية بين دول المقارنة. مؤسسات التمويل تشير إلى اختلال السعر وضرورة معالجته، ولكنها لا تنظر إلى أن هذا السعر لمنتجات الطاقة ــ مثلا ــ لم يتكون بشكل طبيعى فى الأساس، ولم ينتج عن منافسة مع القطاع الخاص بل احتكار حكومى صرف، ولم يخلُ من تحميله بفوائد القروض (قبل وبعد تحرير سعر الصرف)، والهدر والفساد والسرقات، وعدم كفاءة الإنتاج والصيانة والتوزيع... إلى غير ذلك من أسباب اتساع الهوة بين التكلفة والسعر.
الصناعة الوطنية تحتاج إلى دعم الدولة وبسرعة، وخروج شركة واحدة من السوق يتسبب فى ضرر ربما لا يمكن تداركه إلا بعد سنوات طوال. علما بأن كثيرا من المصنعين الوطنيين يصبرون على ضربات السوق والسياسات التى يرونها غير منصفة لهم إدراكا منهم باستحالة العودة إلى السوق بعد الخروج منها، ولكن هناك دائما سقف لاحتمال هؤلاء للضربات.