1ــ الخلط بين الجمال والحقيقة
من الصعب تصديق ذلك الآن لكن إلى وقت قريب، كان الاقتصاديون يهنئون أنفسهم بنجاح المجال الذى يتخصصون به. وكانوا يعتقدون أن هذه النجاحات نظرية وعملية فى آن واحد، وأنها ستقود إلى العصر الذهبى لمهنة الاقتصاد.
فعلى الجانب النظرى، كان الاقتصاديون يعتقدون أنهم قد نجحوا فى تسوية خلافاتهم الداخلية كافة. ومن ثم فإنه فى عام 2008، أعلنت دراسة بعنوان The State of Macro (حالة الاقتصاد الكلى) للبروفيسور أوليفييه بلانشار من جامعة إم. آى. تى ويعمل حاليا كبير الخبراء الاقتصاديين فى صندوق النقد الدولى عن وجود تقارب واسع فى وجهات النظر بين الاقتصاديين.
وفى العالم الحقيقى اعتقد الاقتصاديون أن جميع الأمور تحت السيطرة، وأن «المشكلة المركزية المتعلقة بالحيلولة دون حدوث الركود قد جرى حلها» على حد قول روبرت لوكاس من جامعة شيكاغو. وفى عام 2004، احتفى بن برنانكى الأستاذ السابق فى جامعة برينستون ورئيس مجلس إدارة بنك الاحتياط الفيدرالى حاليا بالتوازن العظيم فى الأداء الاقتصادى خلال العقدين الماضيين، معزيا إياه جزئيا إلى التحسينات التى حدثت فى صنع السياسة الاقتصادية.
غير أن كل شىء انهار فجأة العام الماضى.
فعلى إثر الأزمة، بدا الخلاف فى داخل مهنة الاقتصاديين أوسع منه فى أى وقت مضى. فقد اعتبر لوكاس أن خطة الإنعاش الاقتصادى التى أقرتها إدارة أوباما بمثابة «بضاعة رديئة»، وقال زميله فى جامعة شيكاغو جون كوشرين إن هذه الخطة تقوم على «حكايات الجن» الملفقة. وردا على ذلك، أشار براد ديلونج من جامعة كاليفورنيا إلى ما سماه «الانهيار الفكرى» لمدرسة شيكاغو. ومن جانبى، فقد كتبت أقول إن تعليقات اقتصاديى مدرسة شيكاغو تُعد نتاجا لعصر الاقتصاد الكلى المظلم الذى جرى فيه نسيان المعرفة التى بذلنا جهدا كبيرا فى تعلمها.
ماذا حدث لمهنة الاقتصاد؟ وإلى أين تتجه؟
2 ــ من سميث إلى كينز وبالعكس
عادة ما يُعزى الفضل فى ميلاد الاقتصاد كعلم منضبط إلى آدم سميث الذى نشر كتاب «ثروة الأمم» عام 1776. وخلال الـ 160 عاما اللاحقة، جرى تطوير نظرية اقتصادية شاملة كان مفاد رسالتها الأساسية «ثقوا فى السوق». وكانت هذه بمثابة الفرضية الأساسية للاقتصاديين «الكلاسيكيين الجدد» (الذين اشتُقت كنيتهم من منظرى القرن التاسع عشر ممن طوروا المفاهيم التى وضعها السلف من الكلاسيكيين).
غير أن هذا الإيمان بالسوق قد تحطم مع الكساد العظيم. وفى نهاية الأمر، تحول معظم الاقتصاديين إلى التركيز على رؤى جون ماينارد كينز، فيما يتعلق بتفسير ما حدث، وحل مشكلة الكساد فى المستقبل على حد سواء. وعلى خلاف ما هو شائع، لم يرد كينز أن تتولى الدولة إدارة الاقتصاد. وقد وصف تحليله الوارد فى كتابه الأهم فى ١٩٣٦ «النظرية العامة فى التشغيل والفائدة والنقود» باعتبارها «محافظة فى تطبيقاتها نوعا ما». كينز أراد إصلاح الرأسمالية، لا إحلال نظام آخر محلها. لكنه اعترض على التصور الذى يعتبر أن اقتصاديات السوق الحر يمكن أن تعمل دون راع حارس. كما أنه دعا إلى تدخل نشط من جانب الحكومة عبر طبع المزيد من النقد عند الضرورة، أو الإنفاق المكثف على المرافق العامة من أجل محاربة البطالة فى أوقات الركود.
وخلال نصف القرن الماضى، كانت قصة الاقتصاديين فى مجملها هى قصة التراجع من الكينزية إلى الكلاسيكية الجديدة. وجاءت العودة إلى الكلاسيكية الجديدة فى البداية بقيادة ميلتون فريدمان، الأستاذ فى جامعة شيكاغو، حيث أكد منذ وقت مبكر جدا فى عام 1953 أن الاقتصاد النيوكلاسيكى يعمل بطريقة تجعل الاقتصاد فعالا وجديرا بالثقة. لكن ماذا عن الكساد؟
بدأ هجوم فريدمان على الكينزية بمبدأ يُعرف «بالنقدية». ولم يختلف النقديون من حيث المبدأ مع فكرة أن اقتصاد السوق يحتاج إلى استقرار يتحقق قصديا. غير أن النقديين أكدوا أن التدخل الحكومى المحدود جدا عبر إعطاء أوامر للبنوك المركزية بالإبقاء على استقرار تدفق النقد هو كل المطلوب للحيلولة دون الكساد.
وقدم فريدمان حججا دامغة ضد أى تدخل حكومى قصدى لتقليل البطالة عن «المستوى الطبيعى» (يعتقد حاليا أنه 4.8% فى الولايات المتحدة). وتنبأ بأن السياسات التوسعية بشدة سوف تؤدى إلى مزيج من التضخم وارتفاع البطالة. وقد أكد صحة هذا التنبؤ الركود التضخمى الذى حدث فى السبعينيات، وهو ما أدى إلى تعزيز مصداقية معارضى الكينزية. غير أنه فى نهاية الأمر، ظهر أن موقف فريدمان أكثر اعتدالا ممن جاءوا بعده.
فى الوقت نفسه، اعتقد بعض خبراء الاقتصاد الكلى أن الركود يُعد أمرا جيدا، لأنه جزء من عملية تكيف الاقتصاد مع التغيير. وحتى أولئك ممن لم يتوصلوا إلى هذه النتيجة اعتبروا أن ضرر أى محاولة لمحاربة الركود الاقتصادى سيكون أكبر من نفعه.
وأصبح الكثيرون من خبراء الاقتصاد الكلى يصفون أنفسهم بأنهم كينزيون جدد، يؤمنون بأن الحكومة يجب أن تلعب دورا قويا. ولكن مع ذلك، آمن معظم هؤلاء بأن المستثمرين والمستهلكين عقلانيون بطبيعتهم، وبأن السوق عادة ما تسير فى الطريق الصحيح.
بالطبع اعترض القليل من الاقتصاديين على افتراض السلوك العقلانى هذا، ووضعوا موضع المساءلة الفرضية التى تعتبر أنه يمكن الوثوق بأسواق التمويل، وأشاروا إلى التاريخ الطويل من الأزمات المالية وتبعاتها الاقتصادية المدمرة. لكنهم لم يستطيعوا التقدم كثيرا للأمام ضد حالة التسليم الواسع والذى اتضح بعد ذلك أنه أحمق بطرح الكلاسيكيين الجدد.
3 ــ تمويل أندية القمار
خلال ثلاثينيات القرن الـ20، لم تحظ أسواق التمويل بالكثير من الاحترام، وهو ما يعود إلى أسباب متعددة. فقد اعتبر كينز أنه لا يجب أن نسمح لهذه الأسواق بأن تفرض اتخاذ قرارات مهمة قائلا إنه «عندما يصبح تطور رأس المال فى بلد ما نتاجا لأنشطة أندية القمار، فإنه من المرجح أن تُنجز هذه الوظيفة بطريقة سيئة».
بحلول عام 1970 اختفى بالرغم من ذلك النقاش حول الفقاعات والمضاربة المدمرة ولا عقلانية المستثمرين من المجال الأكاديمى الذى أصبحت تسيطر عليه «فرضيات كفاءة السوق» كما طرحها يوجين فاما من جامعة شيكاغو. وزعم فاما أن أسعار الأصول فى الأسواق المالية تتحدد بدقة بطريقة تعكس قيمتها الحقيقية، طالما كانت المعلومات مكفولة للجمهور.
وبحلول ثمانينيات القرن العشرين، كان اقتصاديو التمويل يطرحون أنه نظرا لأن الأسعار فى أسواق التمويل دائما ما تكون محددة بشكل صحيح، فإن أفضل شىء يمكن أن يقوم به رؤساء الشركات هو زيادة سعر الأسهم إلى أقصى درجة ممكنة ليس فقط من أجل مصلحتهم، ولكن من أجل مصلحة الاقتصاد ككل. وبمعنى آخر، اعتقد اقتصاديو التمويل أنه يجب أن نضع تنمية رأس المال فى الدول فى أيدى من سماهم كينز «نوادى القمار».
ويتميز النموذج النظرى الذى وضعه اقتصاديو التمويل بافتراض أن جميع المستثمرين يوازنون بطريقة رشيدة بين الأخطار والعائد وسُمى نموذج تسعير الأصول الرأسمالية بأنه صيغ بطريقة راقية. وإذا قبل المرء الفرضيات الأساسية لهذا النموذج، فسيكون ذلك مفيدا للغاية، لأن نموذج تسعير الأصول الرأسمالية لا يخبرنا فقط كيف يمكن أن نختار الحوافظ الاستثمارية، ولكنه أيضا يقول لنا كيفية تحديد سعر المشتقات التمويلية. وأدى رقى النظرية الجديدة والفوائد الواضحة التى تنتج عنها إلى سلسلة من جوائز نوبل تلقاها واضعو النظرية. فى الوقت نفسه، أصبح الكثيرون من أساتذة كليات الأعمال خبراء فى وول ستريت، ويحصلون على رواتب منها.
وكى نكون عادلين، لقد وضع منظرو التمويل كما هائلا من الأدلة الإحصائية التى بدت فى أول الأمر كأدلة يؤكدها الواقع. لكنها كانت فى واقع الأمر أدلة ضيقة الأفق. فنادرا ما تساءل اقتصاديو التمويل عما إذا كانت أسعار الأصول لها أى معنى فى ضوء الأساسيات الحقيقية مثل الأرباح. وبدلا من ذلك تساءلوا عما إذا كانت أسعار الأصول لها معنى فى ضوء أسعار الأصول الأخرى.
غير أن منظرى التمويل استمروا فى الاعتقاد بأن النماذج التى وضعوها صحيحة فى الأساس، وهو الاعتقاد الذى شاركهم فيه العديد من الناس، ممن كان عليهم اتخاذ قرارات عملية. وكان ممن يؤمنون بهذه الفكرة آلان جرينسبان وكان آنذاك يشغل منصب رئيس بنك الاحتياط الفيدرالى. وكان السبب فى رفضه للمطالب الداعية إلى كبح جماع قروض الرهن العقارى، أو حتى مواجهة فقاعة العقارات هو الاعتقاد بأن اقتصاديات التمويل الحديثة تجعل الأمور كافة تحت السيطرة.
غير أنه بحلول أكتوبر الماضى، أقر جرينسبان بأنه مذهول لأن «الصرح الفكرى برمته قد انهار».
4 ــ لم يكن بوسع أحد التنبؤ
أصبح الطرح الأساسى فى النقاشات الكئيبة عقب الأزمة يرتكز على أنه «لا أحد كان بوسعه التنبؤ بها». ويُقال ذلك عادة فى حالة الكوارث التى كان بالإمكان التنبؤ بها، والتى كان يجب التنبؤ بها، والتى تنبأ بها بالفعل عدد قليل من الاقتصاديين الذين تعرضوا لسخرية الآخرين.
خذ على سبيل المثال الصعود والهبوط السريع لأسعار المنازل. لقد أدرك بعض الاقتصاديين خاصة روبرت شيللر أننا بصدد فقاعة وحذروا من أنه ستكون لها عواقب وخيمة. غير أنه فى عام 2004، استبعد جرينسبان ما يقال عن «فقاعة المنازل» قائلا إنه «من غير المرجح على الإطلاق حدوث انحرافات كبيرة فى الأسعار على المستوى القومى». وقال برنانكى فى 2005 إن ارتفاع أسعار المنازل «يعكس إلى حد كبير الأسس القوية للاقتصاد».
كيف فشلوا فى توقع الفقاعة؟ كى نكون عادلين، كانت معدلات الفائدة منخفضة بدرجة غير عادية، وهو ما يفسر جزئيا ارتفاع الأسعار. وقد يكون السبب فى عدم توقع الفقاعة هو أن جرينسبان وبرنانكى كانا يشعران بالثقة إزاء نجاحات بنك الاحتياط الفيدرالى فى إخراج الاقتصاد الأمريكى من ركود عام 2001. ولكن معظم هذا النجاح قد ارتكز فى واقع الأمر إلى فقاعة كبرى.
غير أن هناك سببا آخر. ذلك أنه قد ساد اعتقاد عام بأنه لن تكون هناك فقاعة. وكان من المدهش أن تأكيدات جرينسبان لم يكن لها أساس موضوعى، لكنها كانت ترتكز على مجرد تأكيدات مسبقة على أنه ببساطة لن تكون هناك فقاعة.
وكان منظرو التمويل أكثر جرأة فى هذا الشأن. ففى مقابلة مع يوجين فاما، صاحب فرضية كفاءة الأسواق، أعلن أن «كلمة فقاعة تكدرنى»، ومضى قدما يشرح لماذا يجب علينا أن نثق فى سوق المنازل قائلا إن «أسواق المنازل أقل سيولة، لكن الناس يكونون حذرين للغاية عندما يشترون المنازل، لأن ذلك هو أكبر استثمار يقومون به. وقبل الشراء ينظرون حولهم بحذر شديد ويقارنون بين الأسعار».
وفى حقيقة الأمر، يقارن مشترو المنازل بالفعل بين أسعار المنزل الذى يريدون شراءه وأسعار المنازل الأخرى. لكن ذلك لا يقول لنا شيئا حول ما إذا كانت أسعار المنازل فى مجملها مبررة. وباختصار، فإن الإيمان بكفاءة أسواق التمويل قد جعل الكثير من الاقتصاديين إن لم يكن كلهم يتعامون عن الفقاعة المالية الأكبر فى التاريخ. كما أن نظرية كفاءة أسواق التمويل لعبت دورا مهما فى انتفاخ هذه الفقاعة.
والآن، انكشفت المخاطر الكامنة فى الأصول التى كان يفترض أنها آمنة، حيث رأى الأمريكيون ثروة قدرها 13 تريليون دولار تتبخر فى الهواء، وفقد 6 ملايين شخص وظائفهم، وارتفعت معدلات البطالة إلى أعلى مستوى لها منذ عام 1940. إذَن ماذا يستطيع أن يقدم لنا الاقتصاد الحديث فى ظل المأزق الراهن؟
5 ــ شجار خطة الإنعاش
فى لحظات الركود الطبيعى، يقوم بنك الاحتياط الفيدرالى بشراء أذون الخزانة وهى ديون حكومية قصيرة الأجل من البنوك. ويؤدى ذلك إلى انخفاض سعر فائدة الديون الحكومية، ويتوجه المستثمرون الراغبون فى الحصول على معدلات فائدة أعلى إلى أصول استثمارية أخرى، وهو ما يخفض معدلات الفائدة الأخرى. وعادة من يؤدى انخفاض معدلات الفائدة إلى تعافى الاقتصاد. وتعامل بنك الاحتياط الفيدرالى مع الركود الذى بدأ عام 1990 عن طريق تخفيض معدلات الفائدة قصيرة الأجل من 9% إلى 3%، وتعامل مع ركود عام 2001 عبر تخفيض هذه المعدلات من 6.5% إلى 1%، بينما حاول التعامل مع الركود الراهن عبر تخفيضها من 5.25% إلى صفر%.
لكنه قد تبين أن معدل صفر% ليس منخفضا بما يكفى لوضع نهاية للركود. لكن بنك الاحتياط الفيدرالى لا يمكنه أن يخفض من معدلات الفائدة عن صفر%، لأنه فى هذه الحالة سوف يكتنز المستثمرون ما لديهم من نقود بدلا من إقراضها. ومن ثم فإنه بحلول نهاية 2008، ومع انخفاض معدلات الفائدة إلى ما يطلق عليه الاقتصاديون «حد الصفر الأدنى»، استمر الركود، وظل يتعمق، وهو ما أفقد السياسة النقدية التقليدية أى أهمية.
وماذا بعد؟ هذه هى المرة الثانية التى تجد أمريكا نفسها أمام حد الصفر الأدنى، حيث كانت المرة الأولى فى الكساد العظيم. وكان الاعتقاد بأنه يوجد حد أدنى للفائدة لا يمكن الانخفاض عنه بمثابة الدافع لدى كينز كى يطرح زيادة الإنفاق الحكومى. فعندما تكون السياسة النقدية غير كفء، ويكون من غير الممكن إقناع القطاع الخاص بإنفاق المزيد، يجب على القطاع العام أن يقوم بدوره فى دعم الاقتصاد. ويمثل التحفيز المالى الرد الكينزى على الموقف الاقتصادى الراهن الذى يشبه الكساد.
وتعبر السياسة الاقتصادية لإدارة أوباما عن النهج الكينزى فى التفكير. وأعلن كوشرين المستاء من فكرة أن الإنفاق الحكومى يمكن أن يخفف من حدة الركود الراهن أن «ذلك لا يعد جزءا مما علمناه لطلاب الدراسات العليا منذ الستينيات. وتمثل الأفكار الكينزية هذه نوعا من حكايات الجن التى ثبت أنها زائفة. وإنه لشىء مريح بالنسبة لنا أن نعود فى أوقات الأزمة إلى حكايات الجن التى سمعناها فى طفولتنا، لكن ذلك لن يجعل هذه الحكايات أقل زيفا».
ولكن كما أشار براد ديلونج، فإن الموقف الراهن لكليات الاقتصاد يصل إلى الرفض رفضا باتا لأفكار ميلتون فريدمان. ويعتقد فريدمان أن تدخل بنك الاحتياط الفيدرالى لا زيادة الإنفاق الحكومى هو السبيل لتحقيق استقرار الاقتصاد. لكنه لم يؤكد أبدا أن زيادة الإنفاق الحكومى غير مجدية تحت أى ظرف فيما يتعلق بزيادة معدلات التوظف.
كما أن فريدمان لم يؤيد قط الفكرة القائلة بأن معدلات البطالة المرتفعة تمثل اختيارا طوعيا من جانب العمال لتقليل الجهد الذى يقومون به، أو أن الركود هو أمر طيب بالنسبة للاقتصاد. غير أن كيزى موليجان يرى أن ارتفاع معدلات البطالة لهذه الحدود يرجع إلى أن الكثير من العمال يرفضون الوظائف باختيارهم، وأن العمال يفضلون البقاء عاطلين لأن ذلك يعفيهم من التزامات الرهن العقارى. ويعلن كوشرين أن ارتفاع معدلات البطالة يمثل شيئا إيجابيا قائلا: «يجب أن نعيش الركود. فالناس الذين قضوا عمرهم يدقون المسامير فى نيفادا يحتاجون إلى عمل شىء آخر».
وأنا شخصيا اعتقد أن ذلك محض جنون. فلماذا يجب علينا أن نتحمل البطالة فى جميع أنحاء الولايات المتحدة حتى نجبر النجارين على ترك نيفادا؟ هل يمكن أن يطرح أى إنسان بجدية أننا فقدنا 6.7 مليون وظيفة لأن عددا قليلا من الأمريكيين يريد أن يعمل؟ لكن إذا انطلقنا من فرضية أن الناس عاقلون تماما، وأن الأسواق تعمل بكفاءة تامة، فسوف نخلص إلى أن البطالة هى اختيار طوعى، وأن الركود هو أمر مرغوب فيه.
6 ــ الاختلالات والخلافات
يواجه مجال الاقتصاد أزمة لأن الاقتصاديين قد أغوتهم فكرة كمال نظام السوق. وإذا كان مقدرا لهذه المهنة أن تكفر عن ذنوبها، فإنها يجب أن تتصالح مع رؤية أكثر تواضعا، تقوم على أن اقتصاد السوق يحوى العديد من الفضائل، ولكن به اختلالات واختلافات أيضا.
ويوجد بالفعل نموذج متطور لنوع الاقتصاد الذى يدور فى ذهنى، يتمثل فى مدرسة التمويل السلوكى. ويؤكد المنتمون لهذا المنهج على أمرين، أولهما أن العديد من المستثمرين على أرض الواقع لا يتميزون بالدقة والرزانة التى تتصورها نظرية السوق الكفء. ذلك أنهم كثيرا ما يكونون رهنا لسلوك القطيع، وكثيرا ما يتخذون قرارات غير عاقلة. وثانيا، فإنه حتى أولئك الذين يحاولون أن يتخذوا قراراتهم بناء على حسابات باردة، كثيرا ما يجدون أن ذلك غير ممكن، لأن أزمة الثقة والأمانة تجعلهم يجرون خلف القطيع فى كثير من الأحيان.
والآن، ماذا عن خبراء الاقتصاد الكلى؟ لقد قامت الأحداث الأخيرة بتفنيد فكرة أن الركود هو رد الفعل الأمثل على التذبذب فى معدلات التطور التكنولوجى. ومن ثم فإن الطرح الأكثر معقولية هو قريب بدرجة أو أخرى من الرؤية الكينزية. غير أن النماذج الكينزية الجديدة لا تتضمن إمكانية حدوث أزمة كالتى نعانى منها الآن، لأن هذه النماذج تقبل بشكل عام فرضية كفاءة السوق فيما يخص قطاع التمويل.
ويشير أحد التصورات المطروحة من جانب بن برنانكى ومارك جيرتلر من جامعة نيويورك إلى أن عدم وجود الضمانات الكافية أدى إلى تقليل قدرة الاستثمار على جمع الأموال والاستفادة من الفرص الاستثمارية. ويرى تصور آخر طرحه زميل برينسيتون نوبيوهيرو كيوتاكى وجون مور من كلية لندن للاقتصاد، أن أسعار سلع مثل العقارات يمكن أن تعانى من انخفاض معزز ذاتيا يؤدى إلى تراجع الاقتصاد بشكل عام. غير أنه حتى هذه اللحظة، فإن الآثار المترتبة على اختلال سوق التمويل لم تصبح قضية أساسية حتى بالنسبة للاقتصاديين الكينزيين، ويجب أن يتغير هذا الوضع.
7 ــ إعادة تذكر كينز
اعتقد أن الاقتصاديين عليهم القيام بما يلى. أولا، يجب أن يواجهوا الحقيقية المؤلمة التى مفادها أن أسواق التمويل لا تتمتع بالكمال، وأنها تظل عرضة لأوهام غير عادية وجنون من جانب الجماهير. ثانيا، يجب عليهم الإقرار بأن الاقتصاد الكينزى يظل الإطار الأفضل لفهم معانى الركود والكساد. ثالثا، يجب عليهم أن يبذلوا أقصى جهد ممكن من أجل دمج حقائق التمويل فى الاقتصاد الكلى.
ويجب إدراك أن الرؤى التى قد تظهر بينما تراجع مهنة الاقتصاد مفاهيمها الأساسية قد تكون غير واضحة على الإطلاق. ولا يمكن أن نتصور إمكانية ظهور رؤية صحيحة بشكل مطلق، لكن دعونا نأمل فى أن تتحلى الرؤية الجديدة بفضيلة أنها على الأقل صحيحة جزئيا.
New York Times