فى الوقت الذى كانت احتجاجات ميدان تقسيم على أشدها فى نهاية مايو الماضى، والتى تحولت من مظاهرات ضد إزالة أشجار الميدان إلى اعتراض على سياسة الحكومة بشكل عام، كان التليفزيون الرسمى التركى يبث فيلما تسجيليا عن طائر البطريق... رائحة الغاز كانت تنفذ إلى المنازل، والناس يرون العنف الذى يواجه به مواطنوهم فى الشوارع، والتلفزة مستمرة فى إذاعة برامج عادية، وبالتالى فى الكذب والإنكار. هذا على الأقل ما وصفه الصحفى التركى يافوس بيدار الذى فقد عمله فى جريدة الصباح اليومية بسبب مقالات كتبها بصفته أيضا «الأمبودزمان» أو ممثل القراء المنوط بمراقبة خط وأداء الصحيفة إذا ما خرجت عن الحياد والمهنية. سنوات خبرته لم تشفع له، إذ يشغل هذه الوظيفة منذ حوالى تسع سنوات ويعمل بالميدان الصحفى منذ نهاية السبعينيات، لكن تم فصله وآخرين منذ ذلك الحين، وتوالى إسكات كل من ينتقد سياسة رئيس الوزراء، حتى وصل عدد المفصولين إلى 72 صحفيا، بعضهم من الأسماء البارزة. وقبل أيام، تحديدا فى نهاية نوفمبر الماضى، نظم صحفيون ونشطاء وأساتذة جامعات وقفة تضامن مع تسعة صحفيين متهمين بالانتماء إلى منظمة «أرجنكون» السرية المعروفة بالمؤامرات والاغتيالات وخلافه... فى حين أن اثنين من المتهمين وهما أحمد سيك ونديم سنر كانا ضمن من ساهم بتحقيقات صحفية فى الكشف عن أنشطة هذه الشبكة التى تضم أعضاء من اليسار الجمهورى واليمين المتشدد، بل ونشر الأول كتابا بعنوان «جيش الإمام» يكشف فيه عن اختراق عناصر من حركة «فتح الله كولن» الإسلامية لأجهزة الشرطة ومؤسسات الدولة. الحركة تعد من أهم حلفاء رئيس الوزراء أردوغان، ويعتبر مؤسسها ــ فتح الله كولن ــ رائد ما يسمى بالإسلام الاجتماعى (فى مقابل الإسلام السياسى الذى عرف به نجم الدين أربكان). وهى موجودة فى ثمانى دول حول العالم، خاصة آسيا الوسطى وكردستان العراق حيث تنتشر مدارسها فى أماكن متفرقة وتتشعب أنشطتها، على غرار الطرق الصوفية.
•••
الجماعة الصحفية فى انتظار جلسة المحكمة القادمة والتى تم تأجيلها إلى السادس والعشرين من ديسمبر الجارى... لكن بما أن قضايا حبس الصحفيين وتوقيفهم عن العمل هى من الأمور المعتادة فى تركيا خاصة فى فترة السبعينيات والثمانينيات، فقد تصرف الصحفيون المفصولون بسرعة، وقرر بعضهم إصدار موقع إخبارى مستقل على الانترنت، صار له شعبية فى وقت قصير رغم ميزانيته المحدودة، وهو «تى 24» (t24.com.tr). جميعهم يعددون مثالب زواج السلطة ورأس المال، كما نردد نحن هنا أيضا حاليا. يتحدثون عن رجال الأعمال والكيانات العملاقة التى سيطرت على ملكية الإعلام، ولها مصالحها الاقتصادية مع رجال الدولة والحكم، وبالتالى تكون أحيانا أكثر ملكية من الملك، وتفرض على الصحفيين نوعا من الرقابة الذاتية، حتى دون أن يطلب منها ذلك رسميا.
•••
لغة المال تتقدم وتتراجع الحريات وتمارس الضغوطات على العاملين فى الصحافة كما حدث فى عام 2009 عندما بدأ التضييق على مجموعة «دوجان» الإعلامية المعارضة، وفرضت عليها غرامات «فلكية» جعلتها فيما بعد تقلل من حدتها وتدخل فى مفاوضات مع النظام. وقد اعتبر المراقبون، ومن ضمنهم منظمة «مراسلون بلا حدود»، ذلك التاريخ بداية مرحلة جديدة فى التعامل مع الإعلام بدت أكثر تشددا، تبعها مثلا فى سنة 2012 محاولة حزب العدالة والتنمية الذى يمثله أردوغان تمرير تعديلات دستورية تنتقص من حرية الصحافة التى تحميها المادة 28 من الدستور التركى، ليجعل الصحافة حرة بما لا يتعارض مع الآداب العامة، وهى صيغة مطاطة يستخدمها البعض بما يوافق الأهواء لتكميم الأفواه، فى حين أن تركيا تشغل الموقع الأول عالميا بين مستخدمى موقع تويتر... الحكومات تسعى للتقييد بالطرق نفسها التى اتبعها السابقون، والحالات تتشابه من بلد لآخر، فاستنساخ التجارب يتم دون إبداع يذكر، لا شيء يجعلنا نشعر أننا نمر بجديد حتى فى أساليب القمع، كلنا هذا الرجل أو تلك السيدة، لكن البعض لا يستسلمون حتى لو استفزهم عرض طائر البطريق أو فيلم قديم أبيض وأسود حفظوا حواراته عن ظهر قلب من فرط ما شاهدوه.