يقال إن كل نهاية هى باب على بداية جديدة. وهكذا هى آخر السنة كغلاف حكاية يغلق لأفتح حكايتى القادمة، أو حكاياتى. منذ أن دخلت التكنولوجيا الذكية إلى حياتى عن طريق الهاتف الذكى، صارت تلاحقنى التطبيقات التى تذكرنى بلحظات معينة حين تظهر صور على شاشتى دون أن أستدعيها. من التقط هذه الصورة وأين كنت؟ فى الصورة صديقة هاجرت الشهر الماضى وصديق يتهيأ هو الآخر للرحيل. نسيت هذا العشاء لكننى أتذكر الآن كم كانت السفرة غنية والأحاديث شيقة ليلتها.
•••
نهاية السنة هى ألبوم صور وسلسلة حكايات، لم أعرف وقتها ما أعرفه اليوم ولم أكن قد حضرت نفسى لكل هذا السرد. غريبة هى عدم القدرة على التنبؤ التى ما زلنا نعيش فيها رغم التقدم العلمى والفلكى والطبى. هناك مساحة مجهولة كبيرة تغلف الحياة وتكشف كل يوم عن جانب من وجهها. قد تكشف يوما عن عيون نظرتها رحيمة فتطبطب علينا الحياة، ثم تكشر عن أنياب قد تلتهمنا بلحظة.
•••
أقترب من نهاية السنة على أطراف قدمى. فى الشهر الماضى وقفت على حافة جبل وتحتى الفراغ، ثقل جسمى مرمى فوقه بينما حاولت أقدامى أن تثبت على الأرض. تدلى جسدى فوق الهوة ووقف فى وجهى شبح أخفى وجهه. هى لحظات وقفت فيها فى مواجهة احتمال الموت. نظرت إلى الشبح وتساءلت إن كان دورى قد جاء فى حصاده السنوى. كان يقول الأكبر سنا إن الشبح يقتلع الكثيرين فى آخر السنة. تساءلت إن كنت ممن نوى أن يحملهم معه ثم رجوت قدمى أن تتثبتا فى الأرض فأنا لا أريد الرحيل بعد.
•••
جاءتنى صور هاتفى الذكى تذكرنى بأعياد ميلاد وغناء أولادى فى حفلاتهم المدرسية. ذكرتنى الصور بالشمس والبحر وابتسامات من أحبهم فبدأت أرميها فى وجه الشبح حتى يخاف هو بدل أن يرعبنى. هل ترى قوس قزح فى الصورة؟ سوف يذيب سوادك، قلت للشبح. أمعن النظر فى هذه الضحكات هنا فى الشمس: هى قد تخترق الوشاح الذى تخفى به وجهك وتنهشك قبل أن تفكر بإيذائى.
•••
صور هاتفى مبهجة كما هى الحياة لولا وجود الأشباح. أظن أن البهجة هى وجود الحب، بكل أشكاله، يرفع عنى السواد. الحب ألوان كألوان قوس قزح السبعة، كل أسبوع أتفاجأ من جديد بتكرارها. الأحمر يخفق له قلبى، الأصفر ينعشنى، البنفسجى يغرق يومى بشجن حنون، وهكذا. يطرد قوس قزح عنى الشبح وتشدنى أشعة الشمس إلى الخلف فأتراجع عن مكانى فوق الهاوية وأفهم أننى قد لا أزال عند قمة الجبل بما فيها من مخاوف إنما قد أعود أدراجى قريبا إلى حياتى بفضل الأولين والأحباب.
•••
محظوظ من تتشكل حوله بسرعة شبكة أمان. محظوظ من تقتلعه أياد محبة من مستنقع كاد يبتلعه ومن تشده أشعة الشمس ليعود إلى النور بعد أن رماه الشبح فى الظلام. فى نهاية السنة أتأمل شجرة أمام شباكى فقدت معظم أوراقها وأعرف أنها ستعود لتزهر فقد راقبتها فى السنوات الماضية. هى تصدت للشبح وهذا هو الدرس: سيحاول الشتاء أن يعريها تماما ظانا أنها ستذوب فى الثلج لكنها تبقى هنا وتتحداه فتعود أوراقها لتكسيها بأجمل فستان فى الربيع.
•••
آخر السنة وقت الحنين والشجن والخوف من النهايات، كما هو وقت أتذكر فيه كميات من الفرح حظيت بكثير منها دون إنذار. كجلسة طويلة مع صديقة فى زيارة خاطفة للقاهرة، أو غروب للشمس لم أخطط له حين رفعت رأسى من على الكمبيوتر ورأيت كل درجات اللون البرتقالى فى السماء، أو وجه ابنتى يظهر لى من تحت اللحاف ولم أكن قد شعرت بقدومها إلى السرير أثناء الليل.
•••
آخر السنة يستدعى حكايات أدونها كى لا أنساها. لم أقرأ قط حكايات دونتها فى السنوات الماضية على فكرة لكنى أعرف أننى أحتفظ بها ليوم قد أجلس فيه أمام الشباك أراقب شجرة، لا أعرف أين سأكون لكنى حيثما أكون فسأجلس أمام الشباك أراقب شجرة. سوف أفتح يومها كتب نهايات السنوات كلها وأنا متأكدة أننى سأجد فيه عشرات الأصدقاء والضحكات بل والمواقف الحزينة التى هى أيضا جزء من مخزون الصداقات والعلاقات. سوف أقلب الصور الافتراضية، لا أعرف ما ستكون عليه فى السنوات القادمة، لكنى سأجلس فى الكرسى وأقول لنفسى أننى عشت محظوظة بفضل شبكات الأمان التى أحاطت بى. محظوظة بكمية الأصدقاء والمحبة والدفء الذين غلفونى بسحر الحياة ودهنوا روحى بالأمل.
•••
محظوظ هو من يصل إلى نهاية العام ويعرف أنها بالأحرى بداية فصل جديد ملىء بالحكايات والحب.
كاتبة سورية