منذ أيام دعانى الصديق المهندس أبو العلا ماضى إلى «صالون المسيرى» لمناقشة موضوع مهم هو «أزمة الحركة الإسلامية». شعرت بسعادة تلقائية أن فى المجتمع أشخاصا لايزالون يرون أنهم بحاجة إلى نقد الذات، والوقوف أمام أزمة ألمت بهم.. نعم هى أزمة قاسية طالت منهجية التنظيم ومنظومة الفكر. أفاض المتحدثون فى الندوة فى ذكر مآخذهم على ما آلت إليه الحركة الإسلامية، وبالأخص الإخوان المسلمين خصوصا فى الشهور الأخيرة. كان حديثا جادا، صريحا، ونزيها. تمنيت أن أرى نقاشا مثل هذا فى جميع المنتديات الثقافية، تفد إليه كل جماعة أو فصيل فى المجتمع يبوح بعثراته، ويعترف بأزمته، ويطلب لها حلا. فأسوأ مرض يصيب الجسد السياسى لأى مجتمع هو أن تشيع فيه ثقافة وممارسات تخشى الفضيحة ولا تخشى الرذيلة، بحيث يفضل الالتواء على الاستواء، ويسعى لإخفاء عثراته بدلا من أن يكشفها، ويبتلع ذنوبه دون أن يسعى للتطهر منها. مراجعة الذات فضل لانزال غير راغبين فى اقتنائه. ولكن ستظل هناك ثقوب من الفكر النقدى فى جدار مصمت من تبرير الذات، وتوهم المؤامرة.
(1)
جاءت الندوة فى خضم نقاش محتدم حول ما جرى فى «نجع حمادى»، من هجوم عشوائى طال حياة سبعة مواطنين مصريين، ستة منهم أقباط، والآخر مسلم عقب صلاة عيد الميلاد المجيد. حادث مأساوى، غير متعارف عليه فى الثقافة المصرية، وله دلالات كثيرة تتصل بذهنية العنف المتفشية فى المجتمع. وبرغم هذا، فإن هناك من سعى إلى تبرير الحادث، وتحدث بلغة «نعم الحادث بشع، ولكن.....». بعد ساعتين من الحادث، وقبل القبض على الجناة، ذكر بيان صادر عن وزارة الداخلية أن الحادث يرتبط بواقعة اغتصاب شاب مسيحى لطفلة مسلمة فى فرشوط قبل شهرين. وهو أمر يثير الدهشة. كيف عرفت الوزارة أن هناك ارتباطا بين إزهاق أرواح أبرياء فى نجع حمادى وبين واقعة اغتصاب فى فرشوط فى هذه اللحظة المبكرة؟. وبعد أيام من القبض على المتهمين الثلاثة، وهم أصحاب سوابق إجرامية، لا يزال اثنان منهما ينكران إطلاق النار عشوائيا على المواطنين، فى حين اعترف الثالث بأن زميليه ارتكبا الجريمة، لكنه كان يقود السيارة. مرة أخرى، إذا كان المتهمان الأول والثانى لم يعترفا بالجريمة، ويواصلان الإنكار، فمن أين جاء الارتباط بين ما حدث فى نجع حمادى وما جرى فى فرشوط؟. الغريب أن يصمت محافظ قنا بضعة أيام، وهو قبطى فى خصومة مع قطاع من الأقباط فى محافظته، ثم يخرج ليردد الكلام نفسه، ويقول إن «الحادث فردى»، وأكثر من هذا نقل عنه القول بأن المسيحيين هم السبب فى الحادث. البعض ربط بين ما جرى فى «نجع حمادى» وبين أحاديث القمص زكريا بطرس التى تقدح فى الإسلام، وآخرون مثل التائبين من الحركات الإسلامية السابقة، الذين خرجوا عن صمتهم كى يسجلوا إدانتهم للحادث، وهو أمر محمود، لكنهم أرجعوا ما جرى إلى استقواء الكنيسة فى مواجهة الدولة، وآخرون بما فى ذلك أعضاء فى البرلمان أرجعوا ما جرى إلى وجود مؤامرة خارجية، الدور الذى يقوم به أقباط المهجر، إلخ. ترديد هذا الخطاب يعنى أمرين. الأول: أن المجتمع لا يريد أن يناقش قضاياه بصراحة، ويتطهر من ذنوبه. والثانى أن هناك حالة من حالات الترهل الفكرى، تظهر ليس فقط فى غياب إنتاج الأحاديث الجادة، ولكن أيضا فى عدم القدرة على استحداث فنون خطابية وإنشائية جديدة فى التعتيم على الأخطاء، والتماس الأعذار لها.
(2)
لم يعد مقبولا الاستماع إلى حجج واهية لتبرير حدث مشين. فى مقال سابق بالشروق «القبلية الدينية من ديروط إلى فرشوط» قلت إذا أساء شاب مسيحى فى حق فتاة مسلمة لماذا لا يحاكم دون الإساءة إلى أبناء ملته الآخرين فى أرواحهم وممتلكاتهم؟. اليوم نعيد طرح السؤال ولكن فى أفق مختلف. إذا نظرنا إلى الحجج التى ساقها «أنصار ثقافة التعتيم» لتبرير حادث نجع حمادى سوف نجد أنها تجعل من المتهمين أصحاب مروءة وتدين وشهامة ورؤية. فقد قتل المتهمون مواطنين أقباطا بشكل عشوائى دفاعا عن عرض فتاة مسلمة، وتعبيرا عن غضبهم للاستقواء القبطى فى مواجهة الدولة، وتأكيدا على استهجانهم لما يفعله أقباط المهجر، ورغبة منهم فى التصدى إلى المؤامرات التى تحاك لمصر ليل نهار. هؤلاء ــ إذن ــ ليسوا مجرمين أو قتلة، لكنهم أصحاب مروءة ووعى، قضية ورؤية، مكانهم مقاعد مجلس الشعب أو الوزارة وليس زنزانة فى سجن.
هكذا يكون لى الحقائق، وإطلاق تبريرات لأوضاع خاطئة، وصرف الرأى العام عن التفكير فى الجذور الحقيقية للمشكلات. لم يعد ممكنا أن نصدق أن «الحادث فردى»، لأن حوادث العنف الطائفى تقع على فترات متقاربة نتيجة أسباب ليس لها علاقة بالدين، مثل خلاف أثناء عملية البيع والشراء، مشاجرة بين أطفال أثناء اللعب، إلخ. القضية إذن تتصل مباشرة بوجود مناخ احتقان يصور للجانبين، الإسلامى والمسيحى، أنه مضطهد على يد الطرف الآخر. لا أحد يناقش القضايا بجدية، ولا يوجد من يؤكد أو ينفى ما يتداول من روايات وشائعات خاصة بالملف الدينى.
(3)
كشف حادث «نجع حمادى» بأنه لم يعد هناك موضع للهزل. الشأن الطائفى أصبح مثل الجرح المفتوح. المشكلة ليست فقط فى استمرار نزف الدماء، ولكن أيضا فيما قد يصيبه من تلوث، فيصبح المستقبل أسوأ من واقع هو سيئ بالفعل. هناك قضايا ليس من المقبول التهوين منها، أو التلكؤ فى التصدى لها، أو التعلل بغيابها. هناك مشكلات تتعلق بالأقباط بوصفهم مواطنين مثل بناء وترميم الكنائس، وشغل المواقع الحساسة فى جهاز الدولة، ضعف التمثيل السياسى، غياب الحضور القبطى فى المجالس المنتخبة فى النقابات...الخ، يرافق ذلك تصاعد السجال الدينى بين المسيحيين والمسلمين إلى الحد الذى خلق حالة من النفور والكراهية المتبادلة، تعبر عن نفسها فى حالات الاختلاف أو الاحتكاك بين الطرفين. هناك مهام لا يمكن أن تؤجل. الدولة مطالبة بدعم الحضور القبطى ــ بوصفهم مواطنين ــ على صعيد المؤسسات السياسية، والبيروقراطية، والأمنية، والكف عن الركون إلى الجلسات العرفية لحل المشكلات الطائفية، والتطبيق الحازم للقانون نصا وروحا على أى شخص يتورط فى الإساءة إلى الآخر المختلف دينيا قولا وفعلا. والمؤسسة الإسلامية مطالبة، ربما أكثر من أى وقت مضى، بإنتاج خطابات دينية تحث على التسامح، والمواطنة، وقبول الاختلاف، فى الوقت الذى تحاصر فيه المد السلفى الذى يجتاح القواعد الشعبية الأساسية المؤيدة للوسطية فى الإسلام، ومحاصرة الأصوات التى تستهوى السجال الدينى، وتطعن فى عقائد الآخرين. أما المؤسسة الكنسية فهى مطالبة بأن تتخذ إجراءات صارمة ضد الخطابات التى تطعن فى الإسلام، خصوصا ما يصدر عن القمص زكريا بطرس، وأن تتجه لإنتاج خطابات دينية تشجع الأقباط على الاندماج والتفاعل فى المجتمع ليس بوصفهم رعايا للكنيسة، ولكن تعبيرا عن كونهم مواطنين كاملى المواطنة.
القضية متشابكة، لكن الاعتراف بالأخطاء والخطايا يطهر المجتمعات، ويجعلها أكثر عافية اجتماعيا وسياسيا وثقافيا. ترك المشكلات بلا حلول يؤدى إلى تفاقمها، فالمشكلات لا تحل من تلقاء ذاتها، بل تحتاج إلى جهد متواصل، دءوب، قصدى، والأهم تحتاج إلى من يعترف بأن هناك مشكلة يجب حلها.