ثمة معركة يٌخطط لها، وتعبأ من أجلها الموارد بغية الوصول إلى نتائج بعينها، وأخرى يعلو فيها الضجيج، ويدخل فيها الجميع على خط المواجهة، أحيانا بهدف المزايدة حين لا يكون هناك خصم تحاربه، ولا غاية بعينها يُراد بلوغها. من ذلك النمط من المعارك ما أثير حول شرف سيدات الصعيد على إثر حديث إعلامى لشخص غير معروف فى العمل العام، وقد استقبل المشاركون معه فى البرنامج التليفزيونى حديثه باستنكار ونقد. حدث ذلك منذ أسابيع، ثم استدعى الموضوع من مرقده.
أولا: دون مزايدة، فإنه لا أحد يقبل الطعن فى شرف المرأة المصرية، وليست الصعيدية فقط، فهى بكل المقاييس تتحمل أعباء معيشية فوق طاقتها، وشاركت بجدارة وفعالية فى كل المناسبات السياسية، حتى كانت طوابير الناخبات أمام اللجان الانتخابية نموذجا يُحتذى، فضلا عن أن الأحكام التى تتسم بالتعميم فاسدة بطبيعتها، فلا يمكن الحكم على سكان إقليم معين بخصائص معينة، فهذا اختزال معيب. كما أن هناك نساء ورجالا شرفاء، هناك رجال ونساء فاسدون فى كل مكان. وبالتالى فإن الغضب، واستدعاء العصبية القبلية فى الرد على اتهام المرأة الصعيدية بالزيغان أمر فيه استعراض، وانصراف عن قضايا مهمة، يمكن أن تشغل المتصدرين للعمل العام.
ثانيا: آفة العقل المصرى هى اللجوء إلى التعميم، والشعور الوهمى بالمفاضلة بين سكان المناطق المختلفة، والميل إلى إطلاق الأحكام المطلقة. نحن نعرف أن هناك من يطلق على سكان محافظة بعينها «البخل» أو «النصب» أو «الفهلوة»، ويصل الأمر إلى التنابذ بين سكان المحافظات التى تنتمى إلى نفس الإقليم الجغرافى، تسمع من أهل أسيوط وسوهاج مثلا تعليقات سلبية على أهل المنيا وبنى سويف، والعكس صحيح، والكل ينتمى إلى الصعيد، ويتقاسم هموم الحياة فيه. ويصل التباهى الإقليمى إلى حالة يرثى لها، حين نجد التنابذ بين سكان المراكز الذين ينتمون إلى نفس المحافظة، وتتخيل حين تسمع هذه السجالات الساذجة أنك أمام دول عظمى تتباهى، وليس بين سكان أقاليم يعتصرها الفقر وغياب التعليم عن نسبة غير قليلة، وتراجع التنمية.
ثالثا: حتى لا نكون قساة على أنفسنا، فى المجتمعات المتقدمة تجد هذه الأحاديث. الانجليز والفرنسيون بينهم مصانع الحداد كما يقال، واذا سمعت تعليقات الفرنسيين على سكان بلجيكا تضحك لها كثيرا، وفى داخل الدول تجد نفس الظاهرة. يكفى أن تسمع تعليقات أهل إيرلندا الشمالية واسكتلندا على سكان بريطانيا، وهم جميعا تحت التاج البريطانى، حتى تدرك إلى أى مدى تستبد الأحكام المطلقة بالعقول.
وأخيرا، فإن الذين شعروا بغضب، وقد يكون لدى البعض نبلا وليس مفتعلا، تجاه اتهام المرأة الصعيدية بالانحراف، ونحن جميعا نحترمها، لا نسمع لهم صوتا مؤثرا، وغضبا أصيلا تجاه المعاناة التى يعانيها أهل الصعيد من فقر وبطالة، ونقص فى الخدمات العامة، وقد كان فى السابق الصعيد يلحق به وصف «المنسى»، وقد حدث بعض الاهتمام به فى السنوات الأخيرة، لكنه لا يزال يعانى، وهناك من قراه من يعيش فى حالة انسانية قاسية، ورغم ذلك اخرج اساتذة وعلماء وباحثين ومهنيين، وعمالة لها صيتها فى الدول العربية. هذه هى المعركة الحقيقة وليست الأحاديث الإعلامية الطنانة.