تظهر انعكاسات الواقع الاجتماعى على المنتج الفنى بشكل واضح، بحيث تتبدى فيه ملامح السياق الثقافى والظروف الاقتصادية والسياسية التى يمر بها المجتمع. ولعل أكثر المنتجات الفنية تماشيا مع هذا الواقع وتصديقا له هى الحملات الإعلانية، التى تطارد المتفرج من خلال شاشة التليفزيون وتقتحم الرءوس تارة بخفة وذكاء، وتارة أخرى بغلظة تثير الاستفزاز الشديد فى بعض الأحيان.
وقد صارت متابعة إعلانات التليفزيون هاجسا ملحا يراوغنى، بعد أن تبينت أن عددا من القيم التى كانت فيما مضى مستهجنة، ثم صارت مباحة ومقبولة، ثم أخيرا مستحبة ومُرحب بها قد دخلت إلى الإعلانات بشكل مكثف.
ولا بد من الإقرار بما تتميز به الإعلانات من سرعة التبدل والتكيف ومواكبة التغيرات بالإضافة لسهولة وصولها إلى المشاهد، وبالرغم من أنها ضئيلة المساحة لكنها كبيرة الأثر، إذ إن الخطاب الذى تتضمنه يهدف بالأساس إلى دغدغة المشاعر والضغط عليها والوصول بالمتلقى إلى التفاعل والتجاوب ومن ثم إلى الفعل المادى «الشرائى فى أغلب الأحيان»، الذى يترجم إلى ربح مباشر يصب فى حافظة المُعلِن بالطبع.
ولكى يتحقق التواصل المطلوب بين الطرفين «المنتج والمتلقى» فإن صناع الإعلانات كثيرا ما يلجأون لنقل صورة حية حقيقية لمفردات الواقع المُعاش، بحيث يحمل الإعلان الملامح والسمات الأساسية للفئة التى يتوجه إليها، ومن ثم يكون الخطاب قريب من المتلقى ومؤثرا فيه وناجحا فى تحقيق هدفه.
وإذا كان الإعلان يعكس شيئا من الواقع ويكشف جزءا من التطورات المستمرة، التى تجتاحه فإن إلقاء نظرة قريبة على بعض الإعلانات الموجودة حاليا يضعنا أمام واقع مزعج، إذ إنه برغم التطور التقنى الكبير وحجم الأموال المصروفة، فإن الأفكار والقيم التى المطروحه تكشف كم التدهور والإفلاس الذى أصاب المجتمع فى أخلاقياته ومبادئه. وليسمح لى القارئ باستعراض بعض الإعلانات التى تصيب المتابع المدقق بالتعجب والارتباك إزائها.
أغلب هذه الإعلانات يروج لمشروبات غازية متعددة بشتى الطرق، أولها يدعو الشباب لـ«الاسترجال»، ليس بالحث على انتهاج سلوك معين، بل عن طريق المداومة على المشروب المُعلََن عنه!! وفضلا عن كون الفكرة تحمل تمييزا نوعيا بين الجنسين، فإنها كذلك شديدة السطحية والابتذال، فهى تزيح جوهرا اجتماعيا لصالح مظهر أقل ما يوصف به هو السذاجة والتفاهة.
الإعلان الثانى يروج لنوع مستحدث من مشروب غازى شهير، يتميز بعدم الاحتواء على سُكَّر، ويتم الترويج له عن طريق وضع مترادفات موازية لمحتوى الفكرة الأساسية، فالمشروب الذى يجمع بين الحسنيين (روعة المذاق والخلو من السكر) يتوازى ويتساوى مع أن يكون الشخص «خاطب فلانة ومصاحب علانة فى نفس الوقت، سهران أمام التليفزيون ليلة الامتحان فتأتى الأسئلة عن المسلسل الذى شاهده..».. وفضلا عن أن الفكرة غير مترابطة وغير متسقة، فإن هذه المترادفات، التى يأتى بها الإعلان هى تحطيم متواصل لقيم الإخلاص والاتساق مع النفس والصدق تجاه الآخرين، مع إعلاء لقيم الازدواجية والتكاسل والإهمال.
الإعلان الثالث هو أيضا عن مشروب يقدم باعتباره «الراعى الرسمى للمشجع المصرى» دون ذكر لنوعية هذه الرعاية، والإعلان يلجأ لاجتذاب نوعيات محددة من المشجعين، فينضم لتشجيع كرة القدم المصرية مع من يسميهم «الرغايين والغتتين والفتّايين»، والصورة المصاحبة للإعلان تبرز أحد هؤلاء فى كل مرة «دون أى إدانه أو استنكار» وهو يتسبب فى الضيق لجميع مَن حوله بتصرفاته، التى تفتقر لمراعاة مشاعرهم وحقوقهم، وهى للأسف سمة صارت غالبة، حيث تسود اللامبالاة وتقدمه الذات على الآخرين مختلف التصرفات والمواقف.
أما إعلان «اللبان» فهو قمة فى الاستفزاز، فالشخص المتقدم لمقابلة عمل يرفض التخلص من اللبانة قبل الدخول إلى المدير، ويدخل آخر فنرى سقف مكتب المدير ينهار فوق رأسه، وهكذا ينجو الأول من الكارثة بسبب تمسكه باللبانة ويُصاب الثانى بسبب التزامه بالقواعد واحترامه لها، وتصبح هناك فائدة جمة للاستهتار فى مقابل مضار هائلة للجدية والالتزام.
إحدى قنوات الأفلام العربية تقدم إعلانا عن نفسها لا يخلو من قبح شديد على مستوى الصورة واللفظ بالرغم من أنه قد حاز مؤخرا جائزة عن فكرته المبتكرة، يقدم الإعلان أحد الأفلام الأجنبية المهمة بشىء من السخرية والتشويه، ثم يستبعده متهكما ويستبدل به فيلما عربيا يحمل فى أغلب نسخ الإعلان قيمة فنية متواضعة، ويختتم الإعلان بالعبارة شديدة الإسفاف (أفلام عربى.. أم الأجنبى). والنقاط فى منتصف العبارة تترك للمشاهد الذكى حرية استنتاج الكلمة المحذوفة، ولنا فقط أن نتذكر هذه السلسلة الإعلانية وهى تقارن فيلم (قلب شجاع) لميل جيبسون بفيلم «قبضة الهلالى» ليوسف منصور منتصرة للأخير، والمقارنة لا تحتاج بالطبع لأى تعليق. وقد اعتبر بعض المشاهدين لعدم منطقية الإعلان أنه يسخر من الفيلم العربى سخرية شديدة، لكن التفكير فى مقصد الإعلان بتأن ينفى هذا الاتجاه فالقناة لا تعرض سوى الأفلام العربية، وهى تروج لبضاعتها لذا فليس من الحصافة أن تسخر منها بهذه الفجاجة.
الإعلان الأخير توقف لحسن الحظ منذ برهة وجيزة، فقد كان يقدم عددا من لاعبى كرة القدم الشباب بغرض تعريف الجمهور بهم، وتقوم فكرة الإعلان على ارتكاب أحد هؤلاء اللاعبين لسلوك يفتقر إلى الذوق «إصدار صوت مقزز أثناء شرب مياه غازية» يثير استياء شخص عادى فيؤنبه دون أن يتعرف عليه، وتأتى الموعظة الإعلانية موصية بتشجيع اللاعبين فى المباريات للتعرف على ملامحهم، وبالتالى التغاضى عن أى سلوك سيئ قد يقوم به أحدهم باعتباره نجما مشهورا.
هذه الإعلانات الست المستعرضة هى مجرد عينة بسيطة من كم هائل غث وهى للأسف تعكس قيما شديدة السوء فمفهوم الرجولة يتم تلخيصه فى مشروب بدلا من التركيز على كونه سلوك اجتماعى بالدرجة الأولى، والعادات المقززة يتم الترويج لها كونها صادرة عن لاعب كرة قدم، فلا يُلام اللاعب بل يلام من يرفض تصرفه، ولا تصبح القضية قضية سلوكيات سيئة بل قضية شهرة تغفر لصاحبها أى شىء.. أما استفزاز الآخرين وعدم احترام حقوقهم والاستخفاف بها فيصبح أمرا محمودا يتم الاحتفاء به ومؤازرته فى إطار تشجيع الكرة، هذا بالإضافة للاستهتار بالعمل والجدية والالتزام فى مقابل الترحيب بالتواكل والاعتمادية واللامبالاة والازدواج فى التصرف بل والاحتفاء بالفجاجة والافتقار إلى أبسط قواعد الذوق، ويضاف إلى ماسبق كما من الإعلانات التى تركز على فكرة الربح دون بذل أى مجهود.
إن المنتج الإعلانى يعكس بالفعل السياق الاجتماعى والثقافى والسياسى الذى يمر به المجتمع فى المرحلة الحالية، فالمفاهيم الأساسية مشوشة والبديهيات مرتبكة والتعبير عن الارتباك والتشوش صادق إلى حد مفجع، وإذا كان هذا هو حال المجتمع الآن، فمن الأجدى أن تتوقف الإعلانات عن استلهامه والتأكيد عليه وتزكيته، فلا ينقصنا المزيد من الإسفاف والتدهور.