فى مثل هذا التوقيت من ثلاثة أعوام، تتجدد حملات هجوم غير مبررة على دار الشروق المصرية، وعلى صاحبها المهندس إبراهيم المعلم، وفى كل مرة كان قميص عثمان المرفوع، والراية التى يتم المزايدة باسمها والتستر بادعاء الغيرة على تراثها، اسم كاتبنا الكبير نجيب محفوظ. التهمة المعلنة «حجب أعمال نجيب محفوظ»! هكذا! ويمكن أن يضاف إليها أيضا «تشويه تراثه بتغيير بعض عناوين أعماله»! وطبعا لأن النية مبيتة بعدم التحقق والتوثق من صحة التهمتين فيكفى أن يطلق أحدهم صيحته ويكرر الاتهام بالباطل لتندفع وراءه «صيحات» أخرى تطلق ما تريده من سباب وهجوم فى حق الشروق وصاحبها.
إن هذا الجدل المثار يكشف عن غياب كامل لسياق الحقائق الواضحة، والمعلومات الثابتة، والوقائع التى لا مجال لإنكارها، إلا أن طائفة من المثقفين تنكر ما تريد أن تنكره فقط لأنها ترغب فى ذلك! ولأنها تعلم أنها ترغب فى ذلك، وتتمادى فى تجاهل الحقائق وتتمسك بأوهامها وأباطيلها ما دام ذلك يرضى غرورا ويشعل عداوة ويشفى غليلا!
كشفت هذه الحملة غير البريئة، مثلما كشفت الحملات التى سبقتها والتى ستتلوها عن سوء ظن مبيت فى أوساط غالبية النخب الثقافية تجاه العديد من القضايا التى يعلو فيها الصوت، ويخفت فيها العقل، وتتوارى فيها الحقائق لمصالح خاصة أو ميول شخصية أو تصفية حسابات.
وفى حمى الاعتراضات والاحتجاجات والرفض، نسى أو تناسى الكثيرون، ومنهم أسماء معروفة فى الوسط الثقافى أن من يلقى بتهمة عليه أن يثبتها بالدليل، لا بالأقوال المرسلة والنقل غير المدقق ولمجرد كراهية أو مشاعر سلبية تجاه الشروق ومن يمثلها.
من يطالب الدولة، الآن، بتأميم نجيب محفوظ ونزع حقوقه من أصحاب الحق القانونى، وعلى رأسهم الورثة الشرعيون، واستعداء وزارة الثقافة على دار الشروق ومطالبتها بنزع حقوق نشر أعمال نجيب محفوظ يعلمون جيدا أنهم إنما يفتحون بابا للشر والاعتداء على الحقوق وتجاوز أعراف وقوانين وحقوق الملكية الفكرية، ويعلمون جيدا أنها ستكون سابقة للاعتداء على ملكيات آخرين وإهدار حقوقهم وحقوق ورثتهم.
الذى يخشى على تراث نجيب محفوظ وغيور عليه إلى هذه الدرجة، بدلا من استعداء الحكومة (ممثلة فى وزارة الثقافة) على أصحاب الحقوق، ويمارس «فاشية» كان يدعى أنه يحاربها فليطالب الحكومة ذاتها ممثلة فى وزارة التعليم والتعليم العالى والفنى بتدريس نصوص نجيب محفوظ الغائبة عن مناهج التعليم منذ عقود! إما جهلا أو بسوء قصد، وفى هذه الحال لا يبتعد الأمر عن الجهل كثيرا!
فليطالب الحكومة باستثمار رأس المال المعنوى لتراث محفوظ الذى قامت شركات سياحة ثقافية عربية، وبيزنس خاص خارج مصر بتنظيم رحلات مدفوعة بعملة أجنبية لمعالم نجيب محفوظ والأماكن التى كان يتردد عليها، وتكرر هذا الأمر على مدى عامين متتاليين «والناس عاملة من بنها ولا دريانة بحاجة»!
فليطالب هؤلاء الحكومة بالانتهاء من تجهيز متحف نجيب محفوظ الذى لم يجهز ولم يفتتح منذ وفاته فى 2006!
فليطالب نفسه أولا بأن ينشر ويقدم تراث محفوظ بشكل لائق، ويدعو الحكومة كى تقتنى أعماله، وتوفرها فى المكتبات العامة ومكتبات قصور الثقافة والمدارس والجامعات..إلخ، وتنشرها فى طبعات متاحة وفق الآليات القانونية التى تحترم أصحاب الحقوق، وأن تنظم فاعليات سنوية فى ذكرى ميلاده ووفاته بشكل محترم، يجعل قيمة نجيب محفوظ ظاهرة وحاضرة فى أوساط الأجيال الناشئة وغيرها.
أقول؛ لا تأتى بعد ذلك يا من تطالب باسم نجيب محفوظ وتراث الإنسانية أن تصادر على حق نجيب محفوظ فى اختيار ناشره الذى اختاره بإرادته الحرة وارتضى أن يأتمنه على أعماله وروائعه، وتقول لى أنا «مثقف»، أحترم الحقوق والحريات والملكيات العامة والخاصة والملكية الفكرية بأنواعها، وأحترم الدستور والقانون، وأنتمى لمن يدافعون عن قيمة القيم «الحرية»!!
أنا آسف لن أصدقك.. أبدا.
وأخيرا.. يا ليت أحدا يدلنى على واقعة مشابهة فى دول أمريكا اللاتينية أو إفريقيا أو آسيا، طالب فيها مثقفوها حكوماتهم بالتعدى على أصحاب الحقوق الفكرية لأعمال كاتب راحل لم تسقط حقوقه بعد! هل حدث هذا مع ماركيز؟ مع ساراماجو؟ مع كاميلو خوسيه ثيلا أو بورخيس أو غيرهم فى أى مكان فى الدنيا؟!
هنا فى مصر فقط، يحدث هذا على مرأى ومسمع من الدنيا كلها، يقوم مثقفون باستعداء الحكومة ووزارتها وأجهزتها بالتعدى على حقوق الغير برفع راية حق أريد بها باطل، وبرفع قميص نجيب محفوظ والمطالبة بحقه!
(كلمة أخيرة: بالمناسبة.. لا تنسَ بالمرة يا من تطالب بتأميم نجيب محفوظ ونزع حقوق ملكية نشر أعماله من ورثته وناشره الشرعى أن تطالب الحكومة ووزارة الثقافة بنزع حقوق الملكية الفكرية لكل من إحسان عبدالقدوس، ويوسف إدريس، ويحيى حقى، وجمال الغيطانى.. وعشرات بل مئات من مبدعينا وكتابنا الراحلين من دور نشرهم وأصحاب الحقوق من ورثتهم الشرعيين. أليس هؤلاء الكبار تراثا إنسانيا أيضا ومن حق الأجيال الجديدة كلها أن ترى هذه الأعمال متاحة وفى طبعات شعبية وبأسعار زهيدة وأن تكون متوفرة بأكملها على مدى العام دون نقص ولا نقصان ولا اضطراب.. مش كده برضه؟!)
ولله فى خلقه شئون.