قمت منذ أيام معدودة بزيارة للصين بعد غياب ٢٧ عاما، وخرجت منها بالعديد من الملاحظات وأكدت لى أهمية زيارة موقف الأحداث لأن المصادر الرسمية والعلنية لا تعطى صورة دقيقة للاعتبارات التى تحكم المناخ السياسى لموقع الأحداث.
●●●
وجدت أن المجتمع الصينى يحمل فى طياته العديد من المتناقضات، وهى من سمات المجتمعات والنظم التى تمر بمراحل انتقالية، ففور وصولى إلى مطار بكين برزت مظاهر الفردية فى الشخصية الصينية، وقد دفعنى هذا للتشكيك فى إجابة عن سؤال طُرح أمامى لاحقا حول الفارق بين الحلم الصينى والحلم الأمريكى، بأن المصلحة الشخصية هى جوهر الحلم الأمريكى فى حين أن مصلحة الوطن هى نقطة انطلاق الحلم الصينى.
والدرس المستفاد هنا هو أن القوة الناعمة هى قوة تغيير حقيقية وقد تكون أقوى وأعمق من القوة العسكرية. أما الدرس الثانى فهو أن المصلحة الشخصية والجنوح نحو الفردية هى سمة من سمات المجتمع المعاصر وعلى الحكام قبول ذلك والاستجابة إليها وتوظيفها بدلا من أن تُفاجأ بإحباط وغضب الشعب وثورته.
●●●
واستشعرت قلقا صينيا عميقا من محاولات قوة خارجية الحد من معدلات التطور والنمو على رأسها الولايات المتحدة، وللدرجة التى فسروا بها تصريح أوباما بإعادة توجيه البوصلة السياسية الأمريكية تجاه آسيا بأنه إعلان لسياسة تصعيد جديد تجاه الصين، وشرح لى المسئولون أنه لم يكن محض المصادفة أن أول زيارة خارجية للرئيس الصينى الجديد كانت لروسيا، وأن التصريحات الصادرة عن القمة الصينية الفرنسية الجديدة دعت إلى تجنب هيمنة دولة واحدة على العالم وتضمنت تعهدات بعمل الدولتين وتعاونهما لتأمين عالم متعدد الأطراف.
وفى نفس السياق يُنظر بريبة شديدة للنوايا اليابانية السلبية تجاه الصين، وللدرجة التى جعلت البعض يؤكد أن الشعب اليابانى يؤمن أن استمرار رفاهيته مرهون بامتداد نفوذه إلى داخل الأراضى الصينية لضآلة الموارد الطبيعية اليابانية، وهو مصدر الحساسية الشديدة من أية تحركات يابانية مثل زيارة مسئوليها لمقابر قادة الحروب العالمية، أو تقدمها للحصول على مقعد دائم بمجلس الأمن الدولى. كما تحسم الصين موقفها من التوترات المرتبطة بكوريا الشمالية على أساس أنها محاولة أخرى من الغرب لخلق اضطرابات على الحدود الصينية، لذا لن تمارس ضغوطا جديدة على كوريا الشمالية، رغم عدم ارتياحها للهجة التصادمية للخطاب السياسى الكورى تجاه الغرب.
والدرس المستفاد هنا هو أن الدول التى تمر بمراحل انتقالية، أو التى تقف على مشارف انطلاقة وطنية، تبالغ أحيانا فى حجم المؤامرات والمخاطر الخارجية عندما تواجه صعابا ومشاكل فى تحقيق متطلبات مواطنيها، إلا أنها فى الكثير من الأحيان معرضة ومستهدفة بالفعل بمؤامرات خارجية لأطراف لا تريد لها النجاح.
●●●
وجدت يقينا راسخا لدى من قابلتهم بأهمية إعطاء الأولوية الأولى لإعادة ترتيب البيت الصينى من الداخل، خاصة بالنسبة للتوزيع العادل لعوائد التنمية الاقتصادية على مختلف فئات الشعب وشتى أنحاء البلاد، وكان هناك إلمام ومصارحة بأن المنطقة الغربية من الصين لم تستفد من قاطرة التنمية وتقدير واعٍ أن استمرار هذه الأوضاع سيخلق مشاكل داخلية عديدة مستقبلا، خاصة مع التماسها مع دول لها مجتمعات غير صينية الأصل تمتد داخل الحدود الصينية، مما يفتح الباب لمشاكل مرتبطة بتفاوت نسب الدخل، واختلاف الأصل العرقى للجاليات داخل الصين، واعتقد أن من المهم التنويه أن القيادات الصينية الجديدة جاءت ولها خبرة عمل طويلة فى المحليات فى أنحاء مختلفة من الصين، بما فيها المنطقة الغربية.
والدرس المستفاد هنا هو أهمية التشخيص الدقيق للمشاكل الوطنية المرتبطة بالاستقرار والنسيج الاجتماعى وتكليف أهل الخبرة والحكمة بالتعامل معها سياسيا حتى لا يقف عدم الاستقرار عائقا أمام التنمية الاقتصادية.
●●●
تستهدف الصين مضاعفة الناتج القومى ومتوسط دخل الفرد خلال الأعوام الثمانية القادمة، رغم ضخامة تعداد سكان الصين وتباين معدلات الدخل والحاجة إلى تشغيل العمالة وتوفير خدمات الصحة والتعليم والسكن، علما بأن عشرين مليون طالب يتخرجون فى المدارس الصينية سنويا. وسيفرض ذلك على الصين التعامل مع اقتصاديات السوق لدفع العجلة الاقتصادية، وقبول الكثير من مبادئ ونظم الإدارة الرأسمالية، رغم أن ملكية الكثير من الشركات الصينية التقليدية مازالت ملكية عامة، ولا يزال توسع القطاع الخاص أساسا فى الصناعات والتكنولوجيات الجديدة مثل الاتصالات مع تنامى نفوذ الدولة وملكيتها حتى فى هذه المجالات عندما يتسع السوق والعرض والطلب.
وسيتطلب ذلك المزيد من الانفتاح على العالم، فتحا للأسواق للسلع الصينية، ولتأمين المزيد من مصادر الطاقة لدفع عجلة التنمية الداخلية الصينية، وهو مرجع الاهتمام الصينى بأفريقيا، والتى فاقت استثماراتها فيها السبعين مليار دولار، والتى تزود الصين بـ 27% من نفطها، وتعتبر السوق الثانية للسلع الصينية، فضلا عن أن الصين هى أكبر مستهلك للمعادن الأفريقية، وكانت قد اعتمدت الصين حتى الآن على نقل المنظومة الإنتاجية الصينية إلى مواقع عمل خارجية بأقل قدر من الاختلاط بالمجتمعات العاملة بها، وإنما شعرت مؤخرا أن ذلك يولد شعورا متناميا وتخوفا من رغبة الصين فى استغلال الخيرات المحلية لأغراض تنموية صينية دون عائد مناسب للمواطن المحلى خاصة فى الدول النامية، لذا هناك جهد صينى حقيقى لتوسيع نطاق المعرفة الصينية بالمجتمعات التى يعملون فيها بكثرة مراعاة لهذه الحسابات.
ولعل الدرس المستفاد هنا هو أن جميع الدول، كبرت أو صغرت، تعيش فى إطار قرية عالمية وأنه على الجميع الانفتاح على وقبول الآخر حتى وإن اختلفت التقاليد والعقائد.
●●●
تستورد الصين 39% من نفطها من العالم العربى ويُنتظر أن يزيد اعتماد الصين على الطاقة العربية، فضلا عن أنه سوق متنامية للسلع الصينية وممرا للتبادل التجارى مع دول كثيرة فى العالم لذا ينظرون بقلق بالغ لما يحدث فى شمال أفريقيا واليمن وسوريا رغم أن الصين لا تأخذ موقفا معارضا لما يسمى بالربيع العربى. ومن أسباب قلقهم قناعة بأن التحول المجتمعى العربى بكل ما يصاحبه من اضطرابات ومفاجآت سيستغرق وقتا طويلا، ويتذكرون دائما أن قائد الثورة الصينية صن بات سن أنهى الحقبة الامبريالية الصينية لعائلة كنغ عام 1911، إلا أن الأوضاع ظلت متقلبة لما يزيد على ستين عاما، حتى انتهاء الثورة الثقافية فى النصف الثانى من السبعينيات أحيانا لقلائل ومشاكل داخلية ومرات لتدخلات وأطماع خارجية.
وإذا كان هناك درس يُستفاد منه هنا فهو ضرورة الإسراع فى معدلات الإصلاح الهيكلى والتوافق الداخلى مع عدم التسرع فى توقع نتائج فهناك الكثير من المشكلات الوطنية وإلا ما كانت هناك ثورة، ولا يُستبعد أن تحاول الأطراف الخارجية استغلال تلك المرحلة الحساسة للنيل منا لأغراضها ومصالحها.
●●●
وجدت فى الصين توافقا كبيرا حول المواقف والمخاطر الخارجية، وإنما فوجئت أيضا بتباين واسع بين آراء المسئولين والمحللين وانتقاداتهم الصريحة للأوضاع والسياسات الداخلية وهو ما كان من أكبر المحظورات فى الماضى، ومن ضمن الانتقادات عدم التفكير الصينى استراتيجيا أو ما يرتبط بالتعمير وضعف كفاءة المحليات، وهو مؤشر واضح أن ثورة الاتصالات والمعلومات فتحت المجال للمواطن فى مختلف أنحاء العالم للتفكير فى خيارات متعددة ومن ثم إبداء آراء مختلفة، ورغم كل ما يُنقل عن ممارسات صينية مقيدة لحقوق الإنسان أعتقد أن الصين أيقنت أن الانفتاح الفكرى سيتواصل لا محالة وأن أقصى ما يمكن عمله هو محاولة ضبط إيقاعه مع الإسراع فى معدلات التنمية حتى يجد أغلب المواطنين أن معادلتهم الوطنية توفر لهم توازنا أفضل من العوائد والضمانات والخدمات التى قد يتطلع إليها فى مجتمعات أخرى أكثر مخاطرة.
والدرس المستفاد هنا هو ضرورة مواكبة الحجة بالحجة ومواجهة المشكلات بالعمل الدءوب والنتائج الملموسة بدلا من العنف والنفى والعناد.
●●●
ملاحظات شخصية بعد زيارة لدولة كبرى، لها تاريخ طويل، تسعى لاستعادة وضعها التاريخى، بدءا بأوضاعها الداخلية، وبعد مرحلة إصلاح داخلى شاملة وطويلة، وتقلق مما قد يدبر لها من مؤامرات خارجية. ملاحظات قد تكون مفيدة ونحن نتعامل مع تحديات وآمال المرحلة الانتقالية بعد ثورة يناير 2011.
عميد كلية الشئون الدولية والسياسات العامة بالجامعة الأمريكية فى القاهرة