ثلاثة اعترافات متتالية: اعترف بدر بأنه قتل ابنته، وتم إثبات الاعتراف فى محاضر الشرطة بصورة تفصيلية، وأفاد المتهم بكيفية ارتكابه الجريمة، وأعاد تأكيد أقواله أمام النيابة، وذكر فى التحقيقات أنه أراد تأديبها فقتلها قتلا خطأ.
واعترف محمد ــ وهو شاب فى العقد الثالث من عمره ــ بجريمة مخيفة، قَتَلَ فيها أفراد عائلات ثلاث، تسلل ليلا إلى منزل العائلة الأولى وقتل أفرادها النائمين ومثَّلَ بأجسادهم، ثم قفز وخرج وسار حتى البيت الثانى ثم الثالث إلى أن أتم فعلته بحنكة واطمأن لها، وأخيرا عاد إلى منزل أسرته، حيث ألقى القبض عليه بعد ساعات من اكتشاف الواقعة. اعترف محمد واصطحبته النيابة إلى المنازل الثلاثة فأعاد الخطوات التى سار عليها.. ربما تعثر قليلا ولم يستطع القفز والصعود والهبوط إلا بعد محاولات متعددة، لكنه تمكن فى النهاية من تمثيل جريمته.
فى تمى الأمديد (فى محافظة الدقهلية)، صَدَّقَ رامى على كل ما جاء فى محضر الشرطة، وعلى ما أثبتته تحريات الضباط، أقر واعترف باغتصاب وقتل طفل من أطفال القرية فى الثالثة من العمر، وعليه أُحِيلَ رامى إلى القضاء ولم يكن حينها قد بلغ الثامنة عشرة.
الجرائم الثلاث السابقة منها ما هو قتل خطأ ومنها ما هو قتل عمد، اعترف مرتكبوها بالكلمة والفعل تفصيلا: الأب قتل ابنته الطفلة ذات التسعة أعوام واعترف، والشاب الثلاثينى قتل أفراد بضع عائلات من قريته واعترف، حتى التلميذ ذى السبعة عشر ربيعا اغتصب طفلا وقتله وفى النهاية أيضا اعترف.
لماذا اخترت هذه الحوادث تحديدا لأسردها وعشرات بل ومئات من الجرائم تقع كل يوم، منها ما هو مشابه، ومنها ما يحوى قدرا أكبر من العنف أو حتى من الخسة والدناءة؟ الحقيقة أننى اخترتها لأن المتهمين الثلاثة لم يعودوا بعد متهمين، فقد ظهرت براءة الأب بعد العثور على طفلته حية معافاة، وحكمت المحكمة ببراءة الشاب من قتل عائلات قريته، ليس فقط لانتفاء الأدلة بل ولتأكيد الطب الشرعى استحالة أن يكون هو الجانى، كذلك تمت تبرئة الطالب، الذى تبين أنه كان يؤدى اختبارا فى إحدى اللجان المدرسية وقت اختفاء الطفل.
السؤال الموجع الذى يقفز الآن: ما الذى دعا هؤلاء الأشخاص إلى الاعتراف على أنفسهم زورا؟ ما الذى جعل ثلاثتهم يقرون بجرائم تصل عقوبتها القانونية إلى الإعدام؟ الأب والشاب والتلميذ، كل منهم لم يكن من دليل يدينه سوى الاعتراف الذى أدلى به، فلماذا نطقوا بالكلمات الكاذبة، التى كادت تضع رقابهم وسط حبل مشنقة لا مهرب منه؟ ما الذى حدث بحيث أصبح الاعتراف هو اختيارهم الوحيد؟
الإجابة هى أن كلا منهم تعرض إلى ما لم يقدر على احتماله.. ألم رهيب.. وجع يذهب بعقل أى إنسان ويدفعه دفعا للهرب فى أى اتجاه وبأى وسيلة، حتى وإن كانت إنهاء حياته بيده طلبا للخلاص.
هناك، فى غرف التحقيق التى شهدت الاعترافات المتوالية، تفسيرا واضح للسؤال وإجابة شافية.. الأب ينسى غياب ابنته وسط الركلات والصفعات وانتزاع الملابس، الشاب ينهار متوسلا ومعترفا فى سبيل إنقاذ أمه وأخته المحتجزتين معه من هتك العرض، أما التلميذ، فيسقط تحت وطأة التشنجات، التى تصنعها الكهرباء بجسده فى حين تقع أظفار يده محترقة من أثرها.. الإهانة خارج حدود المنطق، الوجع يدك السدود والحواجز والدفاعات التى يبنيها الإنسان فى مواجهة الخطر ويسقطها أرضا، القهر والإذلال يمحوان كل مفردات الشجاعة والصبر والكبرياء.
هناك، وقف الثلاثة عراة من كل شىء، اعترفوا بكل ما طُلِبَ منهم فى مقابل إيقاف الألم الذى يفتت قدرة البشر على الاحتمال، صار الحكم المؤجل بالموت أكثر رحمة. ربما ظنوا للحظات أن ثمة كابوسا سوف يفيقون منه، لكن الاعترافات كانت تُملى وتُسَجَّل ويُوَقَعُ عليها.
فعل التعذيب يُصَنَّف علميا كواحد من الخبرات أو التجارب الصادمة فى حياة الفرد، حيث لا يمكن توقع الآتى، ولا قياس ما يجرى خلاله على أى نموذج معرفى سابق يألفه العقل، وحيث لا يمكن الهرب ولا إيقاف الألم. تحفل التجربة بالعجز خاصة حينما يستمر الأمر برغم الاعترافات المنتزعة، وبرغم التوسل والارتعاش وفقدان القدرة على التحكم فى النفس. السبب ببساطة أن هدف التعذيب أحيانا ما يتجاوز مجرد الحصول على اعتراف زائف، الهدف كما يرى سارتر قد يصبح كسر الإرادة الإنسانية، ووصم الشخص الذى صرخ وأنَّ واستسلم بأنه فى درجة متدنية.. حيوان إنسانى يُؤمَر فيخضع.
فى بعض الحالات وعند نقطة ما قد ينفصل الإنسان عن محيطه تماما ويفقد القدرة على التمييز بين ما يحدث له فعليا وما هو متخيل، يصبح من العسير عليه تصديق الواقع لغرابته وجنونه. فى «الرجل والنملة» يروى يوسف إدريس كيف استحال الرجل الضخم إلى ذكر نملة بعد أن أجبره مُعَذبُه على مضاجعة أنثى نملة، كيف تضاءلت إرادته وانفعالاته لتتحول إلى إرادة وانفعالات نملة، كيف انفصل عن ذاته تدريجيا ثم فشل فى التراجع حتى حين أراد، لم يتمكن الرجل من استعادة نفسه فمات من هول التجربة بعد أيام.
ما قبل الثمانينيات كاد التعذيب يقتصر على المعارضين السياسيين والمناهضين لأنظمة الحكم، وما بعد الثمانينيات وحتى اليوم أمكن لأغلب الطوائف والفئات أن تختبر قسوته دون سبب وحتى الموت.
خلال العصور الوسطى كان الهدف المعلن للإيذاء الجسدى هو تطهير المخطئ وتحقيق الانتقام منه، لكن بعض المفكرين، وفى طليعتهم فوكو، يرون أن الأهداف الحقيقية والفلسفة الكامنة وراء العقوبات الجسدية فى تلك العصور كانت تحقيق الردع، وإثبات تجلى الذات الملكية ونفاذ إرادتها التى لا تُرَد، لذلك كانت العقوبة علنية والتنكيل مروع يترك أثره على أنحاء الجسد ليراه الجميع ويخشى الوقوع تحت طائلته. مع التطور الإنسانى ولعدد من العلل والأسباب أخذت هذه العقوبة فى التراجع ليحل محلها عزل المخطئ عن المجتمع وتقييد حريته دون إيذاء بدنى.
علنا ما زلنا هناك، فى نفق عصور الظلام القاتمة.