أرى سوريا فى كل وجه أصادفه فى الزحمة، أسير فى شوارع مدن غريبة فأرى وجه صديق أو قريبة عند الإشارة فى الناحية الأخرى. أقترب فيبتعد الوجه، أسرع من خطواتى علنى ألحق بصاحبه لكنه يضيع منى وسط الزحام. فى المقهى أنظر فى الوجوه من حولى فأحاول أن أخمن إن كانت تلك العينين الرماديتين من السويداء أو من الساحل. ألتفت فأرى وجها صافيا بخدود عالية وعينين تظهران من بين تجاعيد عميقة فأفكر بأسواق حلب ودمشق، وأتساءل كيف وصلت صاحبة العينين إلى المدينة التى أزورها. فى المطعم يصب الماء شاب ملامحه دقيقة وعيناه كبيرتان، فأستخدم العربية دون تفكير رغم وجودى فى مدينة أوروبية لأرى ردة فعله، فأنا أكاد أجزم أننى سبق وأن تحدثت معه فى مقهى فى دمشق. أشترى منقوشة فى قرية صغيرة فى لبنان وأتبادل مع الخبازة نظرة من عرفتا أنهما من البلد ذاته دون أن تسألا.
***
أصبحت أرى سوريا فى وجوه من حولى، بت شبه متأكدة أننى سبق وتفاعلت مع أشخاص مجهولين اليوم لكننى كنت أعرفهم فى حياة سابقة. قد لا أتحدث معهم اليوم وأكتفى بالنظر إليهم لمدة ثوانٍ فقط ريثما نقطع الشارع فى اتجاهات متعاكسة تفترق بعدها طرقنا. لكن، ألم نجتمع حول فنجان من القهوة؟ أو فوق ثوب من حرير البروكار الدمشقى فى مدينة قديمة بعد ظهر يوم صيفى حار، فجلسنا فى ظل شجرة الليمون وتفاوضنا حول سعر القماش وتاريخ استلامه؟ أنظر إلى شخص وأتساءل «من وين بعرفه؟» وكأننى أعرف كل السوريين وأستطيع أن أتعرف عليهم فى غربتهم، فى غربتنا نحن جميعا.
***
قرأت أخيرا نصا لصديقة قالت إنها باتت تُشِّبه على كل من تراه فى الشارع، تتخيل أنها ترى أناسا تعرفهم فى كل الوجوه التى تظهر أمامها. استوقفنى التعليق إذ لاحظت أننى صرت أخيرا أنظر بكثير من الاهتمام إلى أى شخص يبدو لى حتى ولو لوهلة أن وجهه مألوف لدى. صرت أفكر أكثر بما يشار إليه على أنه «جمال سورى» دون أن أستطيع أن أحدد الجمال السورى، إذ يختلف السوريون كثيرا فى أشكالهم وألوانهم وملامحهم.
***
فى كل زيارة لمدينة طابعها متوسطى، أى إنها تقع مباشرة على، أو على مقربة من، حوض البحر الأبيض المتوسط، مثل بيروت أو طرابلس، أشعر أن جميع من أراهم خلال الرحلة يشبه أقربائى وأصدقائى فى سوريا، رغم أن دمشق نفسها، حيث كنت أعيش، ليست مدينة متوسطية بحد ذاتها، بل إن بعدها عن ساحل البحر أعطاها فى نظرى مزيجا من الغموض والقسوة لا نجدها فى مدن كالإسكندرية أو اللاذقية، حيث يوشوش أهل المدينتين أسرارهم للبحر، فيحمل هواءه القصص ويعود ويرميها من جديد، يرميها فى سماء المدينتين.
***
لماذا إذا أرى سوريا فى وجوه الغرباء؟ لماذا أنظر فى عيونهم لبضع ثوانٍ على أمل أن نتذكر معا نغمات العود كما سمعناها فى زقاق ضيق، فى مساء لم نكن نتوقع منه شيئا قبل أن يتحول إلى سهرة أتى إليها كل أهل المنطقة. أحاول أن أعقلن فعلتى هذه، فأتخيل أنه بما أن نصف السوريين قد خرجوا من بيوتهم، ونصف النصف أى ربعهم قد خرجوا من سوريا، فإن فرص أن ألتقى واحدا من ستة ملايين سورى قد تكون فعلا مرتفعة. لا معنى للعقلنة، هى حالة شوق دائم لما هو مألوف حتى وأنا متيقنة أنه لم يعد موجودا. هو حنين ينفجر مع كل تعليق أسمعه ممن زار سوريا وأحب أهلها فشاركنى بعض ذكرياته هناك.
***
أظن أننى، وبعد ست سنوات من الحرب الطاحنة، قد صنعت، كغيرى من السوريين، سوريتى فى ذهنى، فزدت من حلاوة تفاح الزبدانى، وبالغت فى وصفى لرائحة الياسمين، بل ربما أكون قد أعدت رسم مدينتى والحى الذى عشت فيه، فمحوت عن قصد أو غير قصد ما لطالما رغبت فى تغييره، وأعدت ترتيب الجيران والأصدقاء والمعارف بحيث لا أذكر ما كان يزعجنى فيهم. ربما للحنين فعلا قدرة سحرية على تخفيف الحدة وزيادة الشوق، ربما يختلق الحنين توقا للحظة استثنائية لم تكن سوى عادية حين حدثت، وربما للعقل قدرة على إخفاء بعض التفاصيل المزعجة والتى كانت حتى مؤذية، فى تلك اللحظة التى أمسكتنى فيها من عنقى وشدت أصابعها حول حلقى فكادت أن تخنقنى.
***
كل هذا والشاب يدور حول المائدة، تارة لأننى طلبت الماء وتارة أخرى لأننى طلبت الحساب. أنهر أطفالى بالعربية وأكاد أجزم أنه زم فمه حتى لا يفشى وجهه شوقه هو الآخر لسماع أم تنهر أطفالها بلغة أمه. أقف وأدفع أطفالى خارج المكان، أتلكأ لثوانٍ وتخرج منى الكلمات رغما عنى «من أين أنت؟» أسأل وأنا أخطو نحو الباب. «من اليونان». تبا لمنطقة حوض المتوسط التى تضفى على جميع من يولد هناك هيئة مألوفة تجعلنى أرى سوريا فى كل الوجوه. أخرج إلى الشارع فتتلقف الشمس أجزائى فى محاولة للملمتها، الشمس هى الأخرى متواطئة مع الشاب اليونانى فى محاولتها أن تفقدنى توازنى. أم تراها تربت على برفق من يعرف أننى سوف أعود إلى بلدى كما أعدت تركيبها فى ذهنى، تحت شمس كتلك التى أقف تحتها الآن، محاطة بأشخاص كل منهم يشبه ذاك الشاب الذى شبّْهت عليه فى المقهى؟