تقول الدكتورة الراحلة حياة الحويك: «أن تهيمن على العالم يعنى أن تهيمن على ثلاث: أولا، الفضاءات والمواقع الجيوسياسية؛ ثانيا، الثروات الطبيعية وخاصة موارد الطاقة؛ ثالثا، الأفكار». هيمنة يخرج عنها السؤال المركزى؛ أين هو التغيير؟ وما مدى تأثير القوى الرأسمالية داخله؟
أسئلة تحاول اليوم مجموعة من الباحثين الإجابة عنها ضمن مجموعة بحثية بدأت فكرتها منذ العام 2015 مع الراحلة، حيث تستند هذه المجموعة إلى إنشاء جيل من الباحثين والباحثات قادر على دراسة علوم الاتصال فى سياقها الثقافى والسياسى والاقتصادى والفنى.
●●●
فى واحدة من أكثر القضايا إشكالية فى زمن العولمة والفضاء العام المخترق، نظرت الراحلة حياة حويك إلى العلاقة بين «الأنا» والـ«نحن» فى ظل غياب السيادة الوطنية، والانكفاء الهوياتى، والبنى المفقودة؛ لتضع مسألة الهوية فى سياق التشكلات الاجتماعية، والعلاقة بين الفرد والمجتمع، متجاوزة المدرسة الأمريكية (مارتن ليبست وجوزيف إلدر) التى اعتبرت العمل الاقتصادى هو الضامن الوحيد لبناء الهوية، حيث انطلقت الراحلة من هذه العلاقة الاقتصادية بوضعها فى إطار تاريخى جغرافى، وضمن عوامل تشكُلهما داخل بنيتها وحواملها الاجتماعية، والوعى بها، ثم أخضعت الهوية فى إطار «الأنا» والـ«نحن» لمراحلها الاجتماعية التى تشكلت عبر صيرورة تاريخية مرتبطة باللغة ومنظومة القيم، وفق مراحل تبدأ بالجدل كشرط أساسى يدخل مساحات النقاش بخطه الفكرى، بحيث يُشكل تيارات فكرية، ثم ينتقل إلى الفضاء العام الذى يُشكل الهوية فى سياقها الفردى والجمعى.
مع الانتقال إلى عصر الفضائيات التى تجاوزت الحيز الجغرافى إلى اللغوى، انتقلت الساحة العامة إلى حقل وسائل الإعلام الذى أنتج الخطاب العرقى والإثنى والهويات الفرعية والبديلة أمام الهويات الجامعة، وعلى عكس التطور التاريخى، باتت وسائل الإعلام المرتبطة بمراكز قوى ليبرالية معولمة حاجزا أساسيا يمنع تشكل الهوية الجامعة فى إطار الدولة/الأمة، وإعادة إنتاج هويات ما قبل المجتمع. وفى سياق بنائها المقارن للهوية والتعددية، اعتبرت تشكل «الأنا» الناقدة المختلفة سيرورة لبناء الـ«نحن» فى إطارها الاجتماعى والثقافى، على أساس استكمال بناء الدولة/الأمة، كنتيجة لهذه التفاعلات الاجتماعية المركبة؛ لقطع الطريق أمام استمرار بناء الهويات الفرعية، وتفكيك سردياتها، حيث قطعت الـ«نحنوات» المعولمة الطريق أمام تشكل «الأنا» الحرة والـ«نحن» المركبة فى إطارها الجمعى.
تطرح حياة الحويك تساؤلات عدة: هل نحن أمام رأى عام تشكَّل وفق صراع تاريخى وجدل عام؟ أم أننا أمام محركين وفاعلين ومراكز قوى تسعى إلى منع تشكل الهوية/الأمة؛ لمصلحة قوى عالمية تسعى لإبقاء المنطقة داخل هيمنتها؟ لقد غابت «الأنا» الناقدة كمواطن فى عصر النيوليبرالية، واستحضرت وسائل الإعلام الفرد المستهلك، وأبدلت بالمجتمع (الـ«نحن») السوق والأسواق، وتلاشت السيادة الوطنية للدولة/الأمة، وأُدخلت الكيانية الوظيفية والهويات الفرعية والقبلية والإثنية والطائفية.
فى محاولة لإعادة فهم الخطاب الإعلامى العربى عشية دخول الألفية الجديدة، وعلى أعتاب سقوط جدار برلين، وانهيار الكتلة الاشتراكية، وانتصار قوى السوق لصالح النظام العالمى الجديد، اجتاحت القنوات العبر ــ عربية الفضاء العام، مرسلة قواعدها الإعلامية بما تحمله من خطابات التبعية والإلحاق المتساوقة مع المشروع الإمبريالى عبر وسائل الاتصال، فتُرجمت انتصارات ليبرالية السوق من خلال ظاهرة خصخصة التلفزيونات العربية، وتحويلها إلى فضائيات تجارية خاصة فى الظاهر، ممولة من العائلات الحاكمة والمال المتمركز ضمن منظومة السلطة. فى هذا السياق، تطرح الدكتورة الراحلة حياة حويك، فى كتابها «الفضائيات العربية بين عولمتين»، تساؤلات عدة: هل يعد هذا التحول حرية تعبير حقيقية ستقود إلى تحول ديمقراطى فى عالمنا العربى، أم أنها ظاهرة ليبرالية إعلامية اقتصادية وسياسية؟
يدعو هربرت أ. تشيلير وحياة حويك إلى إعادة تأسيس مفهوم الإمبريالية الثقافية والإعلامية الأمريكية، من حيث هى إعادة توطين للمشهد السمعى ــ البصرى الوطنى الذى لا يؤدى إلى تنامى تداول المنتجات الثقافية ذات «الماركة الأمريكية»، إذ ساعدت حركة الخصخصة والتحول التجارى داخل الفضائيات العربية إلى احتواء الفضاء الإعلامى والثقافى. لكن الحويك لم تضع «الأنا» فى مواجهة الآخر بشكل مطلق، وإنما الـ«نحنوات» المجزئة فى مواجهة «الأنا» والآخر المشترك فى الجغرافيا والاقتصاد. وعليه اعتبرت أن العولمة الإسلامية هى الوجه الآخر المكمل للعولمة الأمريكية، حيث إنها تخدم الهيمنة الاقتصادية العولمية بتظهير الـ«نحنوات» الفرعية المانعة لتشكل «الأنا» غير المستلبة، والـ«نحن» الجامعة.
من منطلق هذه الظاهرة المُشكلة للرأى العام، شرحت حياة حويك جيوبوليتيك خطاب الفضائيات العربية، ففى عام 1991، كان عدد القنوات العربية 50 قناة مملوكة للحكومات، تديرها وزارات الإعلام المحلية، وعند دخول قوى رأس المال، وصل عدد القنوات العربية عام 2008 إلى 400 قناة خاصة تابعة لمراكز قوى جديدة هى فى الأغلب الأكثر نفوذا وهيمنة من حكومات ودول بذاتها، فهل يمثل هؤلاء المالكين الذين يديرون الفضائيات الإعلامية ويحركونها، ويتحكمون باستراتيجياتها وآليات تنفيذها، قوى التقدم الاجتماعى والديموقراطى فى السياق التاريخي؟ وهل يحملون تطلعات الجماهير المقموعة، أم أنهم جزء من قوى ومراكز عولمية، وزعامات عرفوا كيف يتأقلمون مع الاتجاه الليبرالى الجديد؟
فى رسم السياق الكلى، عبر قراءة جغرافية وتاريخية لعالم الإعلام العربى، حُكم على التطورات الاجتماعية والسياسية والثقافية داخل الفضاء الإعلامى، وحُدد السياقان العام والخاص للمتلقى والمشاهد، فأصبحت قوى السوق الليبرالية المحرك الأساسى فى صناعة الرأى العام سياسيا وثقافيا، على قاعدة المفكر الفرنسى ثيودور أدورنو الموالية للاندماج فى نسق التسليع الثقافى والفنى، وتحول الخطاب الإعلامى إلى قيمة سلعية ربحية دخلت عصر الإنتاج وفقا للعرض والطلب، ووفقا لسياسة المالكين والمحركين، وتجلى ذلك عام 2004، أى فى الفترة التى دعت فيها الإدارة الأمريكية إلى التغيير الديموقراطى فى المنطقة، وبدأت التسويق للعصر الجديد والشرق الأوسط الجديد، حيث بنية الارتباط بين المالكين ورأس المال الدولى العولمى المتعدد الجنسيات، والذى يهدف بالدرجة الأولى إلى كسب التأييد، ما يقتضى نشر وسائل الإعلام جميع ما من شأنه أن يشجع على الاستهلاك، وهنا، أُفرغت السلطة الرابعة لصالح قوى ومراكز النفوذ التابعة لرأس المال الذى يسعى إلى تحويل الفعل الثقافى والإعلامى إلى قيمة تبادلية تقضى، كما يقول ميشال ماتلار، على ما تبقى من الوعى النقدى، فثمة إعلام تتمثل داخله رؤية مراكز الهيمنة التى تتحول من شكل إلى آخر عبر مقولاتها ومصالحها وسلطويتها فى الإبقاء على مجتمع الاستعراض والاستهلاك، ومن ثم تحول الفضاء الثقافى العام إلى سوق قابلة للتغليف والتلخيص وإعادة الإنتاج، وفقا لما تراه قوى السوق مجديا ومربحا.
وإذا كان ثمة تساؤل، بعد أعوام من الحرب الدائرة فى سوريا والعراق واليمن، وحروب الوكالة فى ليبيا، ودخول بعض دول المنطقة فى اتفاقات أمنية وعسكرية واقتصادية مع العدو الصهيونى، فهو: هل نحن أمام فضاء إعلامى تشكل نتيجة الوعى الاجتماعى أم نتيجة تحولات الفاعلين الاجتماعيين والمالكين ومراكز القوى الاقتصادية والسياسية؟ لم تقع منطقة فى العالم ضحية لتخيل مدروس يكاد لا يتوقف مثلما يحصل فى منطقتنا العربية، حيث مثل التنميط الذى مارسته وسائل الإعلام لحضارته وتاريخه صورة لصدام حقيقى محتمل بين الحضارات، إذ تنخرط وسائل الإعلام فى عملها داخل الحقل السياسى والثقافى فى الليبرالية لا خارجها، بإدخالها النبرة الفوقية والاستعلائية والإلحاقية فى خطابها، وبموجبها دخل فضاء المجتمع العربى ومؤسساته الاجتماعية والاقتصادية المجتمع الدولى المعولم أو ما بات يُعرف بالإمبريالية الثقافية.
●●●
ساعد التنظير الذى قدمته الدكتورة الراحلة حياة الحويك على المستوى الأكاديمى فى فهم العلاقة بين قوى الهيمنة وثوره الاتصالات وتشكلات الهوية بين «الأنا» والـ«نحن» فى الساحة العربية، ومنع وصولهما إلى الذات، عبر نموذج الفضائيات العربية، ومدى ارتباطها بمراكز القوى الجديدة فى المنطقة بالنظام العالمى. وهنا، فسرت نظرية زبيغنيو برجنسكى القائلة «بعد عصر المدفعية، وبعد عصر التجارة والمال، باتت تقنيات الاتصال والشبكات تمثل الجيل الثالث من هيمنتنا على العالم».
فى الخلاصة؛ لقد سعت الدكتورة الراحلة حياة الحويك إلى تفكيك صورة الهيمنة بشكل أكاديمى، ضمن خط مواجهة يمتد عبر فهم جوهر الصراع الدائر فى المنطقة، وتفكيك مراكز قوى السياسية والاقتصادية فيها منذ بروز التحولات التاريخية للنظام العالمى الجديد حتى يومنا هذا، موضحة أساليب الهيمنة الإمبريالية عبر الجيلين الثالث والرابع للاتصالات؛ فالنظرية التى طورتها الراحلة تحدد أشكال الهيمنة فى نظام الإنتاج اللامادى بحيث يشعر المرء وكأنه يمتلك وسائل إنتاجه فى مجتمع التواصل الشبكى. ففى عصر الميديا والداتا وحروب الجيلين الخامس والسادس أنتجت منظومات السيطرة أشكالا جديدة للهيمنة والإخضاع عبر تأزيم المجتمعات وتفكيك سرديتها الثقافية وحامياتها الاجتماعية؛ بحيث أصبح لكل مجتمع سلطته المضادة وأسواقه الجديدة وفضاءاته المصنوعة. وبحتمية هذه التغيرات سارعت حياة الحويك إلى مواجهة السلطة والسلطة المضادة معا، ونقدتهما نقدا جذريا عبر تحليل خطابها وتحليل آلياتها فى إطار المسكوت عنه (كتابها ما قبل الأخير)، وما تخفيه آليات الإقصاء والتهميش والتغييب الجديدة لشعوب دول الجنوب.
النص الاصلي