أتساءل ما إذا كانت هناك جدوى من القانون الدولى الذى يُفترض أن ينظم استخدامات القوة فى العصر الحديث. تساؤلى هذا يأتى على ضوء النزاعات المسلحة المشتعلة فى بعض بلداننا العربية والتى تستهدف المدنيين على نطاق واسع وتدمر مدنا بأكملها. الحروب المفتوحة التى تمكنت من بلادنا تحت ذرائع الإرهاب وسياسات مكافحته، تضع القانون الدولى فى مأزق وتُشل فاعلية قواعده. على إثر ذلك هناك من بات يرى ضرورة ملحة لمراجعة مبادئ أساسية استقر عليها القانون الدولى فيما يتعلق بمفهوم السيادة التامة للدول وكذلك حول كيفية تطوير مفاهيم الحماية للإنسان فى القانون الدولى.
قرأت عن كتابٍ صدر أخيرا عنوانه «القانون الدولى والحروب الحديثة»، لعله من أفضل ما طُرح أخيرا فى شرح مأزق القانون الدولى وتعثره أمام التحديات التى تسببها الحروب المفتوحة. ألف الكتاب أستاذتان مخضرمتان فى مجالاتهما: مارى كالدور فى الأمن الإنسانى وكريستين تشينكن فى القانون الدولى.
يطرح الكتاب أنماطا مختلفة من استخدامات القوة المسلحة، تنشأ مع تصدع الدولة القطرية، بحيث لا تعدو الدولة وحدها أهم من يقرر ويمارس الحرب على أراضيها.
أعادت الحروب الحديثة بلادنا مائة عام إلى الخلف. قبل ذلك التاريخ كان القانون الدولى يبيح للدول استخدامات متعددة للقوة المسلحة مثل: ضم أراضٍ جديدة أو التبشير أو جباية الضرائب أو لتأديب خصم. المحطة التالية فى تاريخ تنظيم استخدامات القوة كانت اتفاقية KelloggــBriand Pact لسنة ١٩٢٨ التى ألزمت ٦٣ دولة آنذاك بوقف شن الحروب ولكنها فشلت. ثم جاء ميثاق الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية ليحسم مسألة استخدام القوة المسلحة فى حالتين: حق الدفاع الفردى والجماعى عن النفس (حين وقوع عدوان مسلح أو إن كان بصدد الوقوع) أو حين يأذن مجلس الأمن بذلك.
***
ونحن بالفعل نرى الآثار المدمرة للحروب الحديثة فى أفغانستان، العراق، الصومال، اليمن، ليبيا وسوريا. تقف أسباب عديدة وراء هذه الحروب. من هذه الأسباب صعود الإرهاب، وبالمقابل التوسع الهائل فى سياسات مكافحة الإرهاب، تجاوزات العولمة وما نتج عنها من تفاوت عميق بين البشر، وانتفاء الحكم الرشيد مما تسبب فى ثورات وهبات ضد حكام ومؤسسات حكم ظالمة. لا أناقش فى المقال هذه الأسباب إنما ممارسات استخدام القوة فى الحروب الحديثة وما لذلك من آثار بالغة الضرر على المدنيين.
جاء فى الكتاب أن للحروب الحديثة أنماطا متعددة. أحد هذه الأنماط الخطرة فى رأيى هو نموذج داعش، بتأسيسه دولة الخلافة وإعلانه إنهاء حدود سايس ــ بيكو، وارتكابه جرائم عدوان وجرائم حرب ضد كل المختلفين مع مشروعه، من الذين أطلق عليهم «النصرانيين ــ الروافض ــ الطواغيت ــ الضالين». من سمات هذا المشروع الظلامى، كما جاء فى الكتاب، إنه قائم على تحالفات بين أطراف مسلحة غير نظامية، تحارب بطريقة عابرة للحدود القطرية ومتصلة بالعولمة مما يوفر لها مددا من المال والمحاربين والمتطوعين لخدمة مشاريعها. هذا التنظيم وأشباهه من التنظيمات الجهادية يديرون حروبا مفتوحة، غير واضحة الأهداف، وتستهدف المدنيين على نطاق واسع.
نموذج آخر من الحروب الحديثة، التى لا تبدو لها نهاية أو أهداف واضحة هو «الحرب على الإرهاب»، وهى التى بدأت مع الغزو الأمريكى لأفغانستان فى ٢٠٠١. هذا النمط يتسبب أيضا فى مقتل المدنيين بأعداد هائلة ويوقع دمارا واسعا بالبيئة المستهدفة، وتدار عملياته عبر تحالفات بين دول وأطراف غير نظامية وعابرة للحدود القطرية.
الرئيس ترامب حين عرض أخيرا استراتيجيته «لتحقيق النصر فى أفغانستان» لم يقدم سوى تكثيف لنمط «الحرب على الإرهاب»، التى بدأها جورج بوش ثم عمقها أوباما باستخدامات واسعة لسلاح الطيران. «الحرب على الإرهاب» هى مشروع المؤسسة العسكرية الأمريكية لتطوير صناعاتها الحربية ولعقد صفقات سلاح ببلايين الدولارات، خاصة لدولنا المنكوبة التى تصنع الإرهاب وتحاربه فى نفس الوقت. يجرى تخويف الرأى العام الأمريكى بالنفخ فى خطر الإرهاب، لتسكين فكرة أن هذا النمط من الحروب المفتوحة، بات ضروريا لحماية الأمن القومى. يُستخدم القانون للدفاع عن شرعية تلك الحروب فيما بات يعرف Lawfare أى إدارة الحرب عن طريق القانون. اشتغل جهابذة القانون على تفريغ قواعد استخدام القوة المسلحة من ضوابطها فباتت هى والعدم سواء.. مثلا «حق الدفاع عن النفس» أصبح فى نظر العقيدة الأمريكية ــ استباقى، بخلاف القاعدة القانونية الصحيحة. ومع حق الدفاع عن النفس «المعدل»، أصبح ممكنا استخدام القوة على مسارح عمليات متعددة، حتى لو لم يصدر منها عدوان مباشر. كما بات حق الدفاع عن النفس يٌباشر فى أى وقت، وليس بالضرورة حين يكون العدوان قد حدث أو على وشك الحدوث ــ كما يُفترض. انتقصت «الحرب على الإرهاب» من الضمانات التى يصبغها القانون الدولى الإنسانى على المحاربين، فاختلقت نمط «المقاتل غير الشرعى»، كالذين شاهدناهم فى سجن أبوغريب وسجن جوانتانامو. كما جرى تسويق آلة الحرب وخاصة طائرات الدرونز على أنها أداة ناجعة فى استهداف الإرهابيين فقط، فى حين يرى الخبراء أنها أداة قتل بالاستهداف، تحصد الكل دون التمييز الواجب ودون مراعاة قواعد الضرورة أو الاستخدام بالقدر المتناسب مع الخطر. أما الضحايا الأكبر لهذه الحروب من المدنيين فيجرى تغييبهم أمام الرأى العام الأمريكى، باعتبارهم collateral damage خسائر ثانوية.
***
الإعلام هو بالطبع منبر أساسى لتسويق منظومة الحروب المفتوحة. فها هو الصحفى الأمريكى توماس فريدمان، نصير العولمة وغزو العراق، يكتب مشاهداته بعد زيارة أخيرة للقواعد الأمريكية فى أفغانستان والخليج، واصفا منظومة عملها «بسيمفونية القتل الطائر التى يقودها سلاح الجو الأمريكى».
«سيمفونية القتل الطائر» هذه التى تغنى بها فريدمان، أسفرت عن تدمير الفلوجة عدة مرات وأغلب الموصل، وحين عزفت بالتوازى مع سيمفونية القتل الطائر بقيادة روسيا والجيش السورى، دُمرت حلب من جهتها الشرقية. حتى كتابة هذه السطور تدور رحى الحرب فى الرقة مما أدى إلى هروب ما يزيد على مائة وتسعين ألف مدنى باتجاه مناطق غير آمنة.
الحرب السورية وهى تضع أوزارها بعد ما يقرب من سبع سنوات تقدم أنماطا فجة من الحروب الحديثة ــ فهى تُدار عبر تحالفاتٍ تضمُ دولا وتنظيمات مسلحة تُقاتل عبر الحدود القطرية لعدة دول، وبطرقٍ متصلة بالعولمة. أسفرت الحرب عن سقوط عدد هائل من المدنيين من بين قرابة نصف مليون قتيل. فشل مجلس الأمن فى إدارتها أو معاقبة المتسببين فى أهوالها. أُخرجت الأمم المتحدة من إدارة النزاع المسلح، وتدريجيا سلمت أمريكا ملف إدارة الصراع السياسى السورى لروسيا.
فى الحرب السورية طغى نمط «الحرب على الإرهاب» على كل تصنيفات النزاعات الأخرى المستعرة داخل أراضيها. التحالف الدولى / المحلى بقيادة الولايات المتحدة والآخر بقيادة روسيا (إيران ــ ميليشيات داعمة لها / حزب الله / الجيش السورى) وتحالف تدعمه تركيا وآخرون، كلٌ يحارب «الإرهاب» على طريقته. استخدم الجيش السورى السلاح الكيميائى المحرم دوليا أكثر من عشرين مرة، خاصة فى خان شيخون، مما أسفر عن مصرع عشرات المدنيين كما وثقت الأمم المتحدة أخيرا.
هذا هو حال سوريا الآن وهى تقترب من «لحظة الحقيقة»، على حد تعبير المبعوث الأممى الخاص بسوريا دى مستورا، وهو يصف الموقف بعد هزائم داعش المتتالية على يد النظام. انفض الداعمون من الخليج والغرب عن المعارضة السورية بأطيافها. طالبهم المسئول الاممى بأن يلحقوا هزائمهم وأن يتحدوا ويأتوا إلى طاولة المفاوضات لمناقشة مستقبل سوريا مع بشار الأسد.
«لحظة الحقيقة» هذه هى أيضا لحظة كاشفة عن مدى الخلل الذى يعترى القانون الدولى الذى يضع ضوابط لبدء الحرب وأقل منها بكثير لإنهائها. المنظومة القانونية الحالية تتسامح مع أهداف فضفاضة مثل «مكافحة الإرهاب» أو «المصالح الأمنية المشروعة» مما يفتح الباب أمام الحروب المفتوحة والدائمة.
***
يدعو كتاب «القانون الدولى والحروب الحديثة» صناع القرار والنخب الأكاديمية لإعادة النظر فى البناء الهرمى للقانون الدولى الذى يضع السيادة التامة للدول كأساس لكل قواعده. تدعو الكاتبتان لتبنى مفاهيم جديدة من أسس القانون الدولى ذاته، تضع الإنسان قبل الدولة، والأمن الإنسانى قبل أعمال السيادة. دعوتهما تختلف بعض الشىء عن مفهوم «مسئولية الحماية». هذا المبدأ قد تبنته قمة العالم فى ٢٠٠٥، ولكنه فشل فى اكتساب شرعية، بعدما اتُخذ كذريعة لشن حرب الناتو ضد ليبيا بحجة حماية المدنيين، لكن واقعيا استُخدم كستار للإطاحة بنظام القذافى.
الكاتبتان مدركتان أن هذه الدعوة مربكة بل على الأغلب مرفوضة. فالسيادة القطرية وعدم التدخل فى الشئون الداخلية أمر مقدس للدول جميعا خاصة روسيا والصين. أما أمريكا فهى منخرطة فى حروب مفتوحة وغير عابئة فى عهد الرئيس ترامب بتبنى أى أجندة خارجية متعلقة بحقوق الإنسان.
القانون الدولى يواجه مأزقا يُشل فاعلية قواعده. الكتاب على أقل تقدير يطرح أفكارا لإثراء النقاش حول كيفية تطوير مفاهيم الحماية للإنسان فى القانون الدولى.