نشر موقع قناة الحرة مقالا للكاتب «حازم الأمين» عن المرافعات الأخيرة فى قضية اغتيال رئيس الوزراء اللبنانى الأسبق «رفيق الحريرى»، حيث استمع قضاة المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، الثلاثاء الماضى، إلى المرافعات الأخيرة فى محاكمة أربعة متهمين متورطين فى اغتيال «رفيق الحريرى».
أشهر قليلة تفصلنا عن الذكرى السنوية العاشرة لتأسيس المحكمة الدولية الخاصة بلبنان. قبل أيام، باشرت المحكمة جلسات تسبق حكمها النهائى على المتهمين بارتكاب جريمة اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق رفيق الحريرى.
لكن السنوات العشر المنصرمة شهدت وقائع متصلة بعمل هذه المحكمة تصلح لتخصيب الخيال البوليسى التفاعلى. «جيمينج» سياسى وأمنى لم يسبق لجريمة قتل أن حظيت بمثله. فمعظم المتهمين بالجريمة قتلوا واحدا بعد الآخر، فى لعبة حرب مكشوفة. عماد مغنية ومصطفى بدر الدين وغازى كنعان ورستم غزالى وجامع جامع؛ جميعهم قتلوا فى السنوات العشر من عمر المحكمة. وهؤلاء وإن لم تتهم المحكمة بعضهم، إلا أنهم على صلة وثيقة بما حفلت به محاضر التحقيق.
ومن المرجح أن يكون غيرهم قد قتل أيضا، طالما أن الموت اقترب من المتهمين ومن المنفذين إلى هذا الحد، وطالما أنه موت معلن ومحاط بروايات شديدة الركاكة وغير ساعية لانتزاع صدقية. فغازى كنعان مات منتحرا ورستم غزالى داهمه مرض غامض وجامع جامع مات وهو «يقاتل الإرهاب» فى شمال سورية. أما مغنية وبدر الدين فموتهما وإن لابسه غموض، إلا أن الرواية عنه كانت أكثر تماسكا.
***
نظرة من مسافة عشر سنوات على هذه الوقائع ستكون مختلفة، خصوصا لأناس مثلنا عايشوا تفاصيل ما جرى، وهو ما أفقدهم القدرة على التقاط مشهد أبعد.
لعل الأكثر تراجيدية فيما شهدته سنوات المحكمة العشر، هو مشهد ابن القتيل، أى سعد رفيق الحريرى، فى قصر المهاجرين فى دمشق وفى ضيافة من يعتقد أنه قاتل والده. الأرجح أن سعد فى تجواله فى أنحاء القصر راح يبحث عن الغرفة التى شهدت صدور قرار الإعدام.
وهنا صار بالإمكان استدخال التراجيديا على البعد البوليسى للحكاية. علما بأن الخيال لم يأتِ دوره بعد، فالوقائع أعلاه كلها صحيحة وموثقة، وجرت تحت أنظارنا نحن أهل القتيل وأهل القاتل. وهى جرت من دون أن يكون لنا يد فيها.
أننا نستيقظ فى الصباح على خبر موت رستم غزالى، وفى اليوم الثانى نشاهد مقاطع من جنازته «المتواضعة» فى دمشق. لم يحضرها أى من رجاله، وأى من أفراد الطبقة السياسية فى لبنان ممن صنعهم الرجل من ألفهم إلى يائهم. دور الخيال هنا مقتصر على التوقع، وهذا الأخير واقعى وممكن.
فلنتخيل مثلا سياسيا لبنانيا يشاهد عبر التلفزيون جنازة الجنرال صاحب الأفضال عليه، أو سياسيا آخر كان غزالى قد صفعه فى لحظة غضب! هذه كلها مشاهد من فيلم غير متخيل عن الجريمة. الأول سيكون سعيدا بأنه لم يجبر على حضور الجنازة والثانى سيكون سعيدا بموت من صفعه، والاثنان لن يصرحا بما انتابهما من مشاعر.
وسنوات المحكمة العشر هى سنوات سياسية أيضا، تألفت حكومات فى ظلها، وأسقطت حكومات على ضفافها. ثورة السوريين على نظامهم انطلقت بالقرب منها، وانتصار النظام على الثورة جعل من الجريمة أمرا من الممكن أن يتكرر.
وأضاف الكاتب أن الجريمة حدث انعقد عليه ما لا يحصى من الحقائق. ولبنان وسورية ترنحا وفق ما أملته من نتائج. فمن قتل الحريرى، أطلق شياطينا جديدة وافتتح زمنا مختلفا. من قتل الحريرى قوض نفوذ النظام فى سورية، لكن ليس لمصلحة خصوم هذا النظام إنما لمصلحة رعاته الأكبر. ومن قتل الحريرى، خلق شريحة كبيرة من «الأيتام» السياسيين لم تجد إلى اليوم أبا بديلا. ومن قتل الحريرى مهد لحروب هائلة شهدتها مرحلة ما بعد الجريمة.
***
تجرى اليوم وقائع جلسات المحكمة فى لاهاى، بصفتها تتويجا لعمل القضاة والمحققين طوال السنوات العشر. من المفترض أن هؤلاء كانوا يعملون بعيدا عما جرى بعد وقوع الجريمة. فبينما كان المحقق يوثق الوقائع مات رستم غزالى! من المفترض ألا تهتز الحكاية بفعل هذا الحدث. وبينما كان المدعى العام يتلو البيان الاتهامى مات المتهم الرئيسي! وهذا ما لا يجب أن يغير بالقرار الظنى!
فمثلما عمل القضاة ببرود وصمت هائلين، عمل المنفذون على نحو مواز، بحيث صار لدينا حكايتين، واحدة فى لاهاى وأخرى فى بلاد الشام. فصلهما يفيد كلا المؤلفين، فهو يؤمن للأول الابتعاد بالحكاية عن بيئتها مما يسهل عليه بناءها وتقميشها، ويؤمن للثانى تصوير الحكاية بصفتها لعبة بين قبور أبطالها، لا بين الأحياء منهم.
الأرجح أن حكم المحكمة لم يعد مهما، سياسيا على الأقل. النظام السورى أعاد التقاط أنفاسه، وحزب الله منتصر حتى الآن، ولن يفيد الحكم «أهل القتيل» ذلك أنهم فى أوضاع سياسية لا تمكنهم من الاستثمار فيه، لا بل ربما أربكهم الحكم وضيق خياراتهم.
ختاما يضيف الكاتب أن حكم المحكمة سيفيدنا نحن من شهدنا الجريمة وعشنا على وقع ما رتبته من مآسٍ وحروب. سيفيدنا فى أن يصبح بين أيدينا حكاية مكتملة العناصر، ليس عن الجريمة فحسب، إنما حكاية لا لبس فيها عن أنفسنا وعن ما جرى حولنا. حكاية لا ترتب مهام كبرى بقدر ما تؤسس لوعى ضمنى فى أننا نعيش على نحو قريب جدا من جريمة كبرى لم تنته فصولها بعد.
النص الأصلى