طوال الأسبوع الماضى، ضجّت مواقع التواصل الاجتماعى فى مصر ومن ورائها المواقع والمنصات الاقتصادية والمحلية والإقليمية بجدال عنيف، حول وجود فقاعة عقارية فى مصر من عدمه. السبب الأول فى هذا الجدال هو الاختلاف المتجذّر بين الاقتصاديين حول تعريف الفقاعة، وهو خلاف ليس بجديد ومرجعه فى الأساس إلى جمع مفهوم الفقاعة بين عوامل موضوعية قابلة للقياس وعوامل تحكّمية تقديرية. للتبسيط دعنا نفكّر فى مفهوم الفقاعة لدى العامة من المتابعين وكثير من الخبراء، فهو ارتفاع كبير ومفاجئ فى الأسعار لا تدعمه مبررات حقيقية يعقبه انفجار حتمى. أما عن الارتفاع فى الأسعار فهو متغيّر كمّى قابل للقياس والتقدير، لكن المبررات غير الداعمة لهذا الارتفاع هى ما يثار حولها الخلاف.
الاقتصادى الشهير «جوزيف ستيجليتز» ينظر إلى الفقاعة من هذا الجانب فى قوله: «إذا كان السبب وراء ارتفاع السعر اليوم هو فقط لأن المستثمرين يعتقدون أن سعر البيع سيكون مرتفعا غدا (عندما لا يبدو أن العوامل «الأساسية» تبرر مثل هذا السعر) فإن الفقاعة موجودة». ويعتقد عدد من الاقتصاديين أن هذا التعريف للفقاعة تعترضه مشكلتان رئيستان؛ الأولى أن «ستيجلتز» ينظر إلى الفقاعة باعتبارها حدثا واحدا هو ارتفاع الأسعار، وليس هبوطها مجددا، والثانى هو ضبابية المقصود بالعوامل الأساسية. لكننى انحاز إلى «ستيجلتز» فى تعريفه الذى يرجع إلى مؤلف قديم له يعود إلى العام 1990، ذلك لأن الفقاعة بالتعريف لا ينبغى أن يمتد توصيفها إلى حال ما بعد الانفجار أو التفريغ، كما أن العوامل الأساسية يمكن ردّها إلى عدد من المتغيرات تختلف باختلاف الزمان والمكان والأصل الموصوف.
• • •
من منطلق التعريف السابق دعونا نطرح سؤالا مباشرا عن سوق العقار فى مصر، هل هناك فقاعة عقارية فى سوق العقار أم لا؟ الإجابة البسيطة، نعم بكل تأكيد، نظرا لارتفاع أسعار العقارات فى مصر خلال العقد الماضى (على الأقل) بمعدّلات كبيرة تفوق أى زيادة فى الدخول. ولكون هذا الارتفاع لا يبرره بشكل حاسم سوى التراجع الكبير فى قيمة العملة المحلية، بما يعكس تراجعا فى الطلب الفعال المدعوم بالقوة الشرائية، أى تراجع قدرة المواطن على الشراء بصفة عامة، وعلى شراء العقارات والأصول الكبيرة بصفة خاصة. كذلك تخبرنا الدراسات أن ارتفاع معدلات الإنشاء والبناء العقارى فوق المعتاد، هى مؤشر لوجود فقاعة، ناهيك عن العقارات المغلقة والمجمّدة والتى تدخّر فيها الأموال، ولا سبيل لاستغلالها بغير إعادة البيع بعد أن تصبح أقدم.
لكن الخوف الذى يتسرّب إلى قلوب القرّاء مردّه هو احتمال انفجار الفقاعة العقارية فى أى وقت، بصورة تشبه ما حدث فى الولايات المتحدة بين عامى 2007 و2008 أو ما يحدث اليوم فى السوق العقارية الصينية. عندئذ يجب أن نفصل بين وجود الفقاعة وبين احتمالات وصور انتهائها.
هنا لابد أن ننظر إلى الفقاعة من منظور مختلف، فهى نوع من المخاطر التى قد لا تتمكّن من تجنّبها أبدا فى ظل ارتفاع تكاليف التمويل حول العالم، لكن عليك أن تتعلّم كيف تديرها وتتعايش معها. بل ربما يتعيّن على مصر أن تطوّر آلية مسالمة لما أصفه بـ«التفريغ الآمن للفقاعة العقارية»، دون الحاجة إلى انتظارها حتى تنفجر. نعم عزيزى القارئ فكّر فى البالون الذى تنفخ فيه الهواء بشكل مستمر، فأنت هنا بين خيار أن تستمر فى النفخ حتى ينفجر فى وجهك فى أى لحظة بعد أن تتمدد أنسجته، أو أن تتوقّف عن النفخ وتقوم بتفريغ الهواء قليلا من البالون. أسعار الأصول العقارية هى ذلك البالون، والاستثمارات التى تتدفّق إلى تلك الأصول هى الهواء الذى ينفخ بمعدلات متفاوتة ليتمدد البالون، والتفريغ المطلوب هو الطلب السوقى الذى يجب أن يستغل قدرا معتبرا من تلك الأصول، وإلا كانت مخاطر انفجار البالون كبيرة وغير مأمونة العواقب.
• • •
فى تصوّرى أن الفقاعة العقارية فى مصر مدعومة (حاليا) باستثمارات الدولة، ونسبة كبيرة من المستثمرين ذوى الملاءة المالية الضخمة، لكن القطاع العقارى غير مدعوم بقوى شرائية مناسبة فى جانب الطلب (للتملّك أو الاستئجار) خاصة مع الصعوبات التى يواجهها المستهلك متوسط الدخل فى تدبير احتياجاته البسيطة.. لذا ستتجه الاستثمارات التى يتم ضخّها فى جانب العرض (الإنشاء والتطوير والبيع) إلى تغطية جانب من فجوة العرض والطلب، بمعنى أن يتم تدوير جانب من العقارات المنشأة بين المطوّرين الذين سوف يمثلون جانبى العرض والطلب فى آن، إلى أن تتوقف الدولة وكبار المستثمرين عن الاستثمار بنفس المعدلات السابقة، تحت ضغط أزمات وضرورات اقتصادية حالية أو مستقبلية، منها ارتفاع تكلفة التمويل (الفائدة المرتفعة والشح الدولارى) واعتزام الدولة التوقّف عن مزاحمة القطاع الخاص، والامتثال إلى برنامج الصندوق، وزيادة العجز فى الموازنة العامة الذى يتطلب سرعة التقشّف فى الإنفاق الاستثمارى، وكبح التوسّع فى الإنشاءات ومشروعات البنية الأساسية.
هذا التوقف عن النفخ فى البالون العقارى يدعو المستثمر الذى وضع معظم مدخراته داخل البالون أن يفكر فى طريقة لتفريغ جانب يسير من الهواء للسوق، فيتجه إلى عرض وحداته للأغراض المختلفة السكنية والصناعية والتجارية. لكن الطلب المنخفض بفعل الأزمة وتراجع قيمة العملة المحلية، وتراجع الدخول الحقيقية، وارتفاع تكلفة الاقتراض، وعدم توافر تمويل عقارى معتبر يمكن أن يحل محل القروض الشخصية.. فضلا عن صعوبات أخرى فى القطاع منها تكلفة التسجيل العقارى بما يحد من فرص استغلاله.. يجعل التخلّص من العقار بالبيع بسعر أكبر من تكلفة الاقتناء أمرا شديد الصعوبة، خاصة مع غياب استثمارات جانب العرض التى كانت تحل محل الطلب الغائب. إذن سيكون توظيف العقارات بطرحها للإيجار والبيع بالتقسيط المريح مسلكا شائعا فى هذه الحال، وبالتأكيد ستنخفض الإيجارات مع زيادة المعروض لتتناسب مع القدرة الشرائية للغالبية العظمى من المواطنين (المستغلّين للعقار) وهذا الاستغلال يختلف عن شراء ذوى الملاءة بغرض الادخار واكتناز القيمة، هو استغلال يقوم فيه العقار بالغرض الذى أنشئ من أجله، إما أن يُسكن أو يستخدم كأصل فى مشروع خدمى أو إنتاجى يدر دخلا.
• • •
العوامل الأساسية الداعمة لتخفيض مخاطر الفقاعة فى مصر يمكن حصرها إذن فى: أولا- معدلات الزيادة فى الدخول الحقيقية، وهذه تتطلب تراجع معدلات التضخم وزيادة الدخول الاسمية بنسبة مقاربة من نسبة ارتفاع أسعار العقار، ثانيا- توقعات الارتفاع فى القيمة السوقية للعقار، وهذه توقعات متفائلة فى الأجل القصير ومبررة باستثمارات الدولة والقطاع الخاص، لكن تبريرها لا يصمد فى الأجل المتوسط والطويل أمام الصعوبات السابق وصفها، ثالثا- انخفاض تكلفة التمويل بالنسبة لإجمالى عناصر التكلفة الأخرى، وانخفاض حجم التمويل العقارى بأنواعه المختلفة بالنسبة لحجم الائتمان المصرفى الإجمالى، بما يقلل من مخاطر امتداد أثر الفقاعة إلى السوق المصرفية كما حدث فى أزمتى الرهن العقارى فى الولايات المتحدة والصين. رابعا- وجود قوة شرائية أجنبية فى السوق العقارية المصرية وخاصة من المستثمر الخليجى، وهذه القوى الشرائية تعترضها مخاطر تنافسية العقار فى مصر أمام بدائل إقليمية أقل ثمنا وأكثر ربحية ومصحوبة بمزايا الجنسية والإقامة.
أما ما يتعلّق بأسعار الفائدة وتقلباتها التى يمكن أن تساهم فى انفجار الفقاعة متى تراجعت تلك الأسعار فى المستقبل المنظور، فهذه مغالى فى تقديرها لأكثر من سبب: منها ما يتعلق بالسوابق التاريخية التى عاشتها مصر بشكل متكرر خلال الأعوام الماضية منذ عام 2016 وحتى اليوم، والتى لم تنفجر معها فقاعة العقار، بل استمرت فى التسارع فى غياب بدائل الاستثمار الإنتاجية.. ومنها ما سبق الإشارة إليه من تراجع نسبة التمويل بالدين إلى إجمالى تكلفة الإنشاء.. وإلى الأثر العكسى الذى يمكن أن نتوقّعه لدى تراجع أسعار الفائدة الدائنة فى مصر بنسبة كبيرة خلال عامين، حيث يساعد هذا فى تيسير وصول المشترى إلى تمويل أرخص للوحدات التى يريد شراءها بغرض الاستغلال (الغرض الأهم) وليس تخزين القيمة. لا يخفى على القارئ أن التحوّل إلى اقتصاد كفء وعالى التشغيل وإنتاجى غير ريعى يساهم فى تراجع الاعتماد على شراء الأصول بغرض تخزين القيمة، وتحسين استغلالها بما يضيف قيمة كبيرة للاقتصاد.
من ناحية أخرى يجب أن يلعب ما نسميه مجازا تصدير العقار دورا هاما فى تأجيل أى انفجار عقارى وشيك، من خلال شراء المستورد الأجنبى (العربى تحديدا) لمزيد من العقارات فى مصر متى أحسن تسويقها وتسعيرها فى ضوء تقدير سليم لتنافسيتها، ولتوقعات تحركات الأسواق ومستويات السيولة فى الدول المستوردة، والتى هى بدورها دالة فى عوامل كثيرة منها على تقلبات أسعار النفط والظروف الجيوسياسية..
• • •
فى الأجل المتوسط والطويل أتمنى أن تتجه الإيرادات المحققة من الاستثمار العقارى إلى أنشطة إنتاجية أخرى ذات قيمة مضافة، للمساعدة فى تخفيض حجم الفقاعة بشكل تدريجى عبر تفريغها الهادئ من الهواء عوضا عن انفجارها المفاجئ والعنيف.