الحملة التى تشنها الحكومة ضد طلبة الجامعات حملة غريبة ومروعة وغير ذات جدوى، إلا لو كان المطلوب منها، والله أعلم، استثارة المجتمع الطلابى، وافتعال المشاكل معه، ودفع البعض نحو العنف، وتدمير مستقبل البعض، وإصابة البعض الآخر بالإحباط المزمن، ونشر الإحساس بعدم الانتماء.
المشاهد التى رأيناها ــ ورآها العالم ــ لـ«بداية العام الدراسى فى مصر» مؤسفة وخطيرة وتبين بوضوح بلادة تعامل هذه الحكومة مع مواطنيها واستهتارها بهم.
منذ بدء العام الدراسى وحتى الثالثة مساء الثلاثاء ١٤ أكتوبر وصل عدد الطلبة المحتجزين والمفصولين إلى ١٣٧، وتفصيل الأسماء والحالات على الرابط:
https://docs.google.com/spreadsheets/d
نقاط سريعة:
• هناك طلبة مصابون، بعضهم فى الحجز، وبعضهم الآن فى المستشفيات، وهناك على الأقل حالة واحدة فى خطر وقت كتابة هذه السطور.
• لمن يقول إن هؤلاء الطلبة «إسلاميون»: سواء هم «إسلاميون» أم لا فهم لم يقوموا بأى فعل غير قانونى فى أول يوم دراسة حتى يروعوا ويحتجزوا.
• هؤلاء طلبة، شباب، يواجهون هجمة غريبة من إدارات جامعاتهم ومن الحكومة بأجهزتها. لماذا؟ لو كانت الحكومة تتصور أن مثل هذه المعاملة ستُسكت الشباب وتجعلهم يمشون فى قلب الحيط ويهتمون بمذاكرتهم وبس فهى لا تعرف أى شىء عن الشباب عموما.
• لن يكون الرد على مثل هذه الانتقادات بمحاولة الاستزادة من التعتيم الإعلامى، فالأخبار والصور تخرج إلى الناس وليس هناك أى سبيل لمنعها.
• ولمن يتصور أن ما تقوم به الحكومة الآن هو بمثابة «قرصة ودن» لكى يعرف الشباب مكانهم ومقامهم وسيفرج عنهم «عشان مستقبل البلد»، فأولا: هذا ليس من حق الحكومة، فهى ليست أم الطالب أو أباه، هى مجموعة من الموظفين تتقاضى رواتبها من ضرائب أم الطالب ولا أبوه ومن موارد البلاد التى هى ملك هذا الطالب أساسا، وكل يوم يمر علينا يشهد أن مجموعة الموظفين هذه ليس لها ما يميزها بالمرة على النطاق المعرفى أو الأخلاقى فيعطى لها صلاحية قرص الودان.
وثانيا: أذكركم بثلاث حالات، ثلاث حالات فقط من آلاف حالات الطلبة المعتقلين الآن (نعم آلاف. التقدير المحافظ للأعداد الموجودة فى السجون الآن، على خلفية سياسية، هو حوالى ١٦ ألفا، وأتصور أن نسبة عالية منهم من الطلبة) والذين مر عليهم عام وضاعت عليهم سنة دراسية، خلاف ما يعلمه الله وحده من الآثار التى يتركها الظلم القائم والمستمر على نفسياتهم:
سالم كامل، ثالثة مدنى، هندسة سوهاج
اعتقل فى قنا يوم ١٤ أغسطس ٢٠١٤، وهو الآن محبوس احتياطى فى سجن قنا منذ سنة وشهرين على ذمة قضية أحداث محافظة قنا رقم ٩٠٦٣ جنايات. ويقول سالم إن هذه الأحداث حصلت فى مساء يوم ١٤ أغسطس، بينما كان هو قد تم حبسه قبلها بساعات: «إحنا لمونا ودخلونا الحجز قبل أدان العصر».
سالم طبعا متهم باتهامات كثيرة يتذكر منها: «قتل ٢ من المتظاهرين والشروع فى قتل ٣ آخرين وحرق كنيسة وحرق المحكمة وجراج المحافظة وحرق استراحة القضاء وإتلاف ممتلكات عامة وترويع المواطنين وحيازة سلاح ابيض (حجارة) وحيازة سلاح نارى وحرق عربتين ملاكى..».
أحيلت القضية إلى الجنايات فى ٢٦ مارس ٢٠١٤، وحددوا لها جلسة أُجِّلت إلى ٢٤ يونيو ٢٠١٤ ثم إلى ٢٢ أو ربما ٢٨ أكتوبر الحالى.
سالم، فى الثانوية العامة، لم يحصل على المجموع الذى يدخله هندسة، فدخل معهد لمدة سنتين وتفوق فدخل هندسة. الآن راحت عليه السنة الماضية وهو يخشى أن تروح عليه هذه السنة أيضا. يقول إن المأمور ورئيس المباحث بيوعدوه إنهم يبعتوا مذكرة للكلية عشان يمتحن وبيرجعوا يقولوا الكلية ما وافقتش. وأمن الدولة بييجى يحقق معاه ويوعده إنه هيمتحن ومافيش حاجة بتحصل. هو فى الحقيقة يعلم أن كل هذا غير مجدٍ لأنه على كل حال ستنقصه درجات العملى، فطلبة الكليات العملية طبعا لا يستطيعون استكمال مشروعاتهم واستيفاء الجانب العملى من دراستهم وهم فى السجن.
سالم يسعل بشدة ويقول إنه تأتيه وتأتى غيره فى التنفس وفى الجلد أمراض وأعراض لا يعرفونها.
أحمد عبدالغنى بديوى، طالب فى بكالوريوس هندسة الأزهر، عضو اتحاد الطلاب، وأمين حركة طلاب مصر القوية فى جامعة الأزهر.
اعتقل على خلفية أحداث مسجد الفتح فى ١٧ أغسطس٢٠١٣، وهو الآن محبوس احتياطى فى سجن استقبال طرة منذ سنة وشهرين.
يقول: «اتهمونى بأعمال عنف تصديقها يشبه تصديق أفلام الخيال العلمى.. أكثر من أربعمائة يوم خلف القضبان فى انتظار العدالة.. عمر يضيع ومستقبل مهدر وحلم توقف تحقيقه.. من سيعوضنى أنا وغيرى كثير من الشباب عن سرقة أحلى أيام عمرهم؟».
آخر مرة حققوا معه كانت ٢٦ ديسمبر ٢٠١٣، وأحيلت القضية إلى الجنايات فى ٢٥ فبراير ٢٠١٤، وحددوا لها جلسة أُجِّلت شهر بدعوى أن القاعة لن تسع الـ ٤٩٦ متهما، ثم أقيمت جلسة فعلا فى ١٢ أغسطس٢٠١٤، وبعد مرافعة الدفاع تنحى القاضى المستشار محمود الرشيدى لاستشعاره الحرج وأحيلت القضية إلى محكمة استئناف القاهرة لتحديد دائرة جديدة ولم يتم هذا بعد.
أحمد توفيت جدته يوم اعتقاله، وتوفى خاله الشهر الماضى، وبالطبع لم يودع أياً منهما.
أحمد أضرب عن الطعام فى ١٨ سبتمبر ويقول: «عشرات الوقفات الاحتجاجية للمطالبة بالإفراج عنى وعن زملائى المعتقلين، وامتناع كثير من زملائنا عن أداء الامتحانات تضامنا معنا، لكن النظام لا يستمع. إلى متى يستمر هذا النظام القمعى فى تلفيق التهم لنا؟ نحن الشباب تهمتنا الوحيدة أننا عبرنا عن رأينا فى وقفات احتجاجية أو مظاهرات سلمية معارضة للنظام».
عبدالرحمن الجندى (وقد كتبت عنه من قبل)، حصل على الثانوية العامة بمجموع 99.6٪، وكان مفروض يبدأ دراسة الهندسة فى الجامعة الألمانية ٧ أكتوبر ٢٠١٣
اعتقلوه (مع أبيه، من سيارتهما)، يوم ٦ أكتوبر ٢٠١٣، قبل العصر فى رمسيس. اتهموه فيما عرف بـ«قضية اقتحام التحرير وقسم الأزبكية» مع ٦٦ متهما آخر، ورحلوه فى العيد إلى سجن المرج، ونقلوه فى ٢٢ سبتمبر إلى سجن استقبال طرة، وفى ٣٠ سبتمبر حكموا عليه بـ ١٥ سنة سجن مشدد و٥ سنوات مراقبة و٢٠ ألف جنيه مصرى غرامة.
يقول: «إيه؟ لسه مستقبلى ماضاعش؟ أنا لسة ماستوعبتش الصدمة لغاية دلوقتى.. القضية تضحك من تفاهتها وبساطتها، مافيهاش ولا دليل ولا حرز ولا شاهد قال حاجة مفيدة وكلهم ناقضوا بعض.. ومافيش ولا واحد مقبوض عليه بنفس الطريقة ولا نفس المكان ولا الوقت زى التانى. أنا وبابا معمول لنا محضر لوحدنا من بتوع السنترال وضمونا على القضية، والمحامين كانوا متأكدين إننا ضامنين البراءة لأن شهادة الضابط اللى مسكنا فى صالحنا، ومع ذلك كلنا خدنا نفس الحكم بلا أى تفريق، ومش أى حكم! ١٥ سنة! يعنى أطلع من السجن عندى ٣٥ سنة! يعنى الجامعة والرياضة والكورسات والسفر والأهداف وكل ده بح؟ أنا فعلا مش قادر أستوعب قد إيه الموضوع ظالم. إزاى فيه بنى آدمين كده أصلا؟ أنا فى أحلك وأشد حالاتى تشاؤما ماتخيلتش إن بنى آدم ينعدم ضميره لدرجة إنه يدمر حياة مئات العائلات يوميا على الريق كده وبعدين ينام فى سريره عادى..».
عبدالرحمن الجندى فى أغسطس ــ وقد قضى فى السجن ١٠ شهور حبس احتياطى فى انتظار المحاكمة ــ قام بالآتى:
قرأ ١٠٠ كتاب فى مختلف المجالات
كتب مقالات وشعرا عربيا وانجليزيا ونشرت له مجلة Teen Stuff
أخد كورس كهرباء وكورس رسم هندسى مع شباب من هندسة محبوسين هم أيضا
عمل على تحسين لغته الألمانية وبدأ فى دراسة اللغة الإيطالية
بدأ وأتم برنامج لياقة بدنية مدته ١٥ أسبوعا لم يكن يجد الوقت قبل ذلك للمرور فيه كاملا
أريد أن أفهم: هذه الطاقة، هذا الطموح، هذا التطلع ــ هل هذا هو ما يريد النظام قتله؟
الحقيقة أن من الصعب الوصول لاستنتاج غير هذا: قيادات الجامعات، قيادات الأجهزة، قيادات القضاء، قيادات النظام ــ دولة العواجيز ــ لا تريد فى هذا البلد شبابا ذى طاقة وهمة ونشاط وطموح وإبداع وعقل مفكر ناقد، ولذا فهى تشن حربا على الشباب هى فى حقيقتها حرب على الحياة وعلى المستقبل.
والحرب على الحياة حسابها عسير ــ دنيا وآخرة.
«وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِى عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا < اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا» صدق الله العظيم.