أزمة الأسواق الناشئة أم أزمة عالمية طاحنة؟ - مدحت نافع - بوابة الشروق
الإثنين 16 ديسمبر 2024 4:41 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أزمة الأسواق الناشئة أم أزمة عالمية طاحنة؟

نشر فى : الثلاثاء 16 أكتوبر 2018 - 10:40 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 16 أكتوبر 2018 - 10:40 ص

أثارت التصريحات الأخيرة لمديرة صندوق النقد الدولى «كريستين لاجارد» حول إرهاصات أزمة اقتصادية بالدول الناشئة قلق البعض، لكنها بالتأكيد قد أثارت سخرية الكثيرين من أصحاب المهنة والاختصاص.
الأزمة الاقتصادية التى انتبه إليها الصندوق منذ أيام فقط، وأطلق من أجلها جرس الإنذار أو كما وصفه «اتصال الإيقاظ» wakeــup call ! هى فى الحقيقة واقع معيش بالفعل فى عدد من الدول، وفقاعة ديون رديئة كبيرة أوشكت على الانفجار فى وجه سائر العالم. الأرجنتين والمكسيك وتركيا وفنزويلا تشتعل بها أزمة مالية، تنعكس بشكل قبيح على أسعار الفائدة المرتفعة، وانهيار قيمة العملة المحلية، ومخاطر الإفلاس الوشيك... ومنذ أيام لجأت باكستان إلى الصندوق لمساعدتها.
منذ أن لملمت أزمة التمويل العقارى عام 2008 أوراقها، والعالم مهيأ لأزمة تالية خلقتها سياسات الاحتواء والإنقاذ التى شرعت البنوك المركزية حول العالم فى اتباعها، وفى مقدمتها المغالاة فى طباعة البنكنوت، والتوسع فى خلق الائتمان. الدولار الرخيص أيضا كان سببا فى إقبال غير مسبوق من قبل المؤسسات والشركات الخاصة فى الدول النامية على الاقتراض بالدولار والعملات الصعبة الأخرى من البنوك الأجنبية. الآن مع ارتفاع أسعار الفائدة على الدولار، وزيادة نسبة الديون الرديئة والسندات منخفضة التصنيف الائتمانى إلى مستويات مقلقة، فقد بات من المؤكد انتقال عدوى الأزمة سريعا من الدول المدينة الناشئة إلى الاقتصادات المتقدمة الدائنة وبصورة عنيفة.
سبب آخر للسخرية من تصريحات صندوق النقد الدولى هى أنها تناقض نفسها بصورة مربكة! فهى تتحدث عن أزمة «وشيكة» لا تؤثر بعنف على استقرار الأنظمة المالية بالدول الناشئة التى تنطلق منها الأزمة، لكنها وفى السياق ذاته تتوقع هروب رءوس الأموال من الدول بمعدلات غير مسبوقة منذ أزمة عام 2008! «Capital could flood out of countries at a pace not seen since the 2008 global financial crisis”
فى دراسة لمؤسسة «ماكنزى» تراكم بالأسواق الناشئة ما يقرب من 57 تريليون دولار ديونا إضافية منذ عام 2014 وحتى الآن! إذا كان الرهن العقارى هو المحرك الأساس لأزمة العام 2008، فإن تعثر الشركات فى الدول النامية دون سداد ديونها هو محرك الأزمة الراهنة، بدءا من تركيا وحتى أسوأ الحالات فى فنزويلا.
***
بالنسبة لفنزويلا فقد أنفقت الكثير على برامج الحماية الاجتماعية منذ الأزمة العالمية وذلك اعتمادا على عائدات بيع النفط عندما كانت مرتفعة وبالركون أيضا إلى الدين الخارجى. ثم ما لبث الاقتصاد الفنزويلى يقع فريسة سهلة للتضخم الجامح كنتيجة للإفراط فى طباعة البنكنوت للمساعدة فى سداد الالتزامات. ولأن الأمر مختلف فى الدول النامية عن الدول المتقدمة فالنقود المطبوعة لا تدور بكفاءة فى الاقتصاد. تلك الضغوط تظل تطحن العملة المحلية يزيد من وطئتها تدفقات إلى الخارج لتوفير الحاجات الاستيرادية للدولة، وهو ما يعود بدوره بالسلب على قيمة الديون الخارجية والتى تتضخم بشدة هذه المرة بفعل التضخم الجامح وانهيار قيمة العملة المحلية.. وهكذا فى حلقة مفرغة لا تنتهى عاجلا.
وعلى الرغم من كون الاقتصاد الصينى هو الأكثر تلقيا لقروض الشركات منذ العام 2008 وبنسبة نمو فى الدين المؤسسى بلغت تقريبا 64 ضعفا منذ عام 2000، وصعود ملحوظ لنسبة الدين إلى الناتج المحلى الإجمالى من 97% م عام 2008 إلى 164% حاليا! فإن الصين ليست المرشح الأول للسقوط فى تداعيات الأزمة الراهنة، نظرا لكون النسبة الأكبر من التمويل المتاح لشركاتها من الدين المحلى.
تركيا مثل الصين تضخمت مديونيتها بشدة منذ العام 2008 اعتمادا على الديون الدولارية الرخيصة، تلك الديون التى تخرج عن سيطرة الدولة وتجعلها أكثر عرضة للتعثر المالى.
منذ أزمة 2008 اتجه حجم الدين فى الدول المتقدمة ــ وتحديدا دين الشركات ــ إلى التحرك العرضى، مع انخفاض محدود فى عام 2014 كنسبة من الناتج المحلى الإجمالى. فقد كانت نسبة الدين المؤسسى تمثل نحو 94% من الناتج المحلى فى عام 2008 وهى تمثل اليوم ما يقرب من 92%. أما الدول الناشئة فقد تضخم فيها هذا الدين بصورة كبيرة منذ الأزمة الأولى. ففى دراسة لماكنزى فقد اتجه النشاط فى سوق منتجات الدخل الثابت إلى تلك الدول، محفزا بالدولار الرخيص ــ كما سبقت الإشارة ــ فضلا عن اليورو والين الرخيصين أيضا، مما جعل الاقتراض من الخارج أسهل وأوفر.
الدراسة المشار إليها تؤكد أن حجم الدين إلى الناتج المحلى الإجمالى قد ارتفع فى الدول الناشئة من 55% بنهاية عام 2008 إلى 108% حاليا! مما يؤكد أن النداءات التى أطلقتها مرارا لوزارة التعاون الدولى فى عدم ربط قرار الاقتراض من الخارج بتوافر القروض الرخيصة، بل بالقدرة المستقبلية على السداد واستدامة الوضع المالى للموازنة العامة، لم تكن عبثية، وهو ما استجابت إليه وزارة المالية حاليا بكبح الدين العام، وإدارته بأسلوب مختلف، وتوفير فائض أولى مستقر ولمدة ثلاثة أعوام قادمة على الأقل فى الموازنة العامة للدولة.
تلك القفزة العنيفة فى حجم الدين إلى الناتج المحلى للاقتصادات الناشئة (تقريبا الضعف) بدت تنمو بمعدلات أكثر حدة بعد العام 2011 حينما انضمت أوروبا واليابان إلى الولايات المتحدة الأمريكية فى عمليات طباعة البنكنوت بشراهة.
مؤشرات بورصات الأوراق المالية بدورها شهدت صدمات عنيفة أخيرا فى الأسواق الناشئة فقد خسرت الصين نحو 25% من القيمة السوقية لمؤشراتها وخسرت تركيا 30% وفنزويلا 40% بينما تراجعت مؤشرات الأسواق الناشئة فى المتوسط بنحو 22% على خلفية متابعة المتعاملين للعائد على السندات الصادرة لصالح حكومات وشركات الأسواق الناشئة.. وقد لحقت الصدمات بالبورصات الأمريكية خلال الأسبوع الماضى (خسر مؤشر داوجونز 4,2% من قيمته وخسر ناسداك 3,8% من قيمته وإس آند بى 4,1% من قيمته خلال أسبوع هو الأسوأ منذ مارس الماضى) مع توقعات باستمرار خسارة مؤشراتها خلال الأسبوع الحالى الذى وصفته شبكة سى إن إن بكونه الأسبوع الكئيب!
مخاطر التعثر أطلت بوجه قبيح أيضا فى سوق السندات الأمريكية مع زيادة نسبة السندات ذات التصنيف شبه الردىء near junk BBB من 32% إلى 48% من السوق أخيرا. علما بأن هناك عددا كبيرا من الديون الرديئة التى سوف يعاد تمويلها بين عامى 2019 و 2024. فى أوروبا ارتفعت أسهم ذات التصنيف شبه الردىء من 18% عام 2008 إلى 48% وهو ما يجعل السوق الأوروبية أكثر هشاشة وأكثر عرضة لصدمة انفجار أزمة الديون فى مرحلتها التالية.
****
وإذا كان وضع الديون فى العالم ــ والذى بلغ تقريبا ثلاثة أضعاف ما ينتجه هذا الكوكب ــ قد أصبح الخطر الداهم الذى من شأنه تقويض أى نمو وتطور فى المستقبل، ويحول دون استدامته المرجوة، فإن مفهوم الاستدامة يظل الرقم الأصعب والأهم فى معادلة الاقتصاد الذى نريده لهذا العالم. الوضع المالى الحالى غير قابل للاستدامة، وكذلك الوضع البيئى الذى يعجز دونه كوكبنا عن الحد من ارتفاع درجة حرارة الأرض خلال قرن من الزمان بأكثر من درجة ونصف الدرجة بدلا من درجتين مئويتين وربما أكثر!
تأكيدا لهذا الاتجاه فقد أعلنت لجنة نوبل لأكاديمية العلوم السويدية الملكية فى 8 أكتوبر الماضى منح جائزة نوبل فى الاقتصاد لعام 2018 إلى الأمريكيين ويليام نوردهاوس، وبول رومر. وقد أرجعت اللجنة فوزهما بالجائزة إلى جهودهما فى العمل بمجال تغير المناخ والابتكار التكنولوجى وإدماجهما فى تحليل الاقتصاد الكلى. وقالت الأكاديمية فى بيان لها «وسعت نتائج أبحاثهما نطاق التحليل الاقتصادى بشكل كبير عن طريق بناء نماذج تشرح كيف يتفاعل اقتصاد السوق مع الطبيعة والمعرفة». والاقتصادى «بول رومر» له نماذج شديدة الإحكام تربط بين الابتكار والنمو المستدام الذى يتراكم عبر السنوات بفعل جهود المبتكرين واكتشافاتهم، وكذا السياسات والقرارات الحكومية المشجعة لذلك الابتكار، والتى تنعكس فى النهاية على رفاهة البشر وتحسن مستويات معيشتهم. بينما ركز «نوردهاوس» على مخاطر تغير المناخ وقدم تحليلا يساهم بشكل كبير فى الوقوف على مزايا الاقتصاد الأخضر، ويقدم مع تحليل «رومر» بديلا منطقيا لمقومات النمو المستدام المعزز فى الوقت الراهن مع الأسف بالديون المتضخمة واستنزاف البيئة.
History

مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات