المشهد المخزى الذى يتكرر يوميا على مرأى ومسمع من الكرة الأرضية، الذى يتحول فيه قطاع غزة ذو الكثافة السكانية الأعلى عالميا إلى باحة لآلة الحرب الإسرائيلية، لممارسة مختلف أنواع العدوان والقتل والتدمير، يتم تحت غطاء مبتذل، مداره مواجهة ما يسمى بالإرهاب الفلسطينى، الذى لا يمكن التعامل معه إلا بتلك الوحشية.
تحت ذات الغطاء، وبدعوى نصرة الجيش المعتدى، تتحرك حاملة طائرات أمريكية ذات قدرات هائلة إلى شرق المتوسط، ويتوجه وزيرا الخارجية والدفاع الأمريكيان إلى الأراضى المحتلة، وتعلن بريطانيا وحلف الناتو التحرك للدعم العسكرى، وترهب فرنسا المعارضين لجرائم إسرائيل بعقوبات مغلظة، وتنفض ألمانيا الاتحادية عن نفسها تهم النازية ومعاداة السامية بتأييد مزيد من جرائم معاداة الإنسانية وجرائم الحرب المتنوعة!... كل ذلك لمحاصرة مليونى شخص أغلبهم من النساء والأطفال والمسالمين، وتعريضهم لحالة من الترويع المفرط الذى لا صبر لبشر على تحمله.
المقاربة السخيفة بين المقاومة الفلسطينية، وبين مدبرى أحداث إرهابية تعرضت لها الولايات المتحدة الأمريكية فى الحادى عشر من سبتمبر عام 2001، لا تعدو أن تكون محاولة بائسة لتسويغ جرائم الإبادة الجماعية للشعب الفلسطينى الأعزل، ولرسم صورة بريئة للقوات الأمريكية وهى تدك أراضى العراق ومن قبلها وبعدها أفغانستان بمبررات الحرب على الإرهاب، غير عابئة بضحايا تلك الحرب من المدنيين، لأنهم ليسوا سوى دروع بشرية للإرهابيين، وعليهم دفع الثمن! لا يتفوق على ذلك السخف إلا مقارنة هزلية بين ما تعرض له مستوطنون إسرائيليون على يد بعض كتائب المقاومة الفلسطينية، وما تعرض له اليهود من محرقة على يد النازى! ذلك مما قاله الرئيس الأمريكى «جو بايدن» فى خطابه الذى زعم خلاله أنه رأى أطفالا إسرائيليين يذبحون على أيادى قوات حماس، لكن البيت الأبيض عاد بعدها واعتذر عن عدم صدق ذلك الزعم!
• • •
التاريخ يأبى أن يقع ضحية لتلك الدعاية الكاذبة، والنشأة الأولى لدولة إسرائيل شاهدة على قيامها بسواعد عصابات صهيونية إرهابية، ارتكبت كل صور الإرهاب لتهجير أصحاب الأرض، والاستيلاء على مساكنهم وابتلاع دولتهم، بل ولترويع كل من يقاوم ذلك المخطط، حتى وإن كان من سلطة الاحتلال الإنجليزى قبل عام 1948. ها هى دائرة المعارف البريطانية تعرف عصابة «شتيرن» فيما ترجمته «أنها منظمة صهيونية متطرفة فى «فلسطين»، تأسست عام 1940 على يد أبراهام شتيرن (1907ــ1942) بعد انقسام فى جناح حركة «الإرجون» السرية» وأردفت الموسوعة «كانت المجموعة معادية للغاية لبريطانيا، وهاجمت بشكل متكرر الموظفين البريطانيين فى «فلسطين»، بل وطلبت المساعدة من قوى المحور. وردت الشرطة البريطانية بقتل «شتيرن» فى شقته فى فبراير 1942؛ وتم بعد ذلك اعتقال العديد من قادة العصابة. وامتدت الأنشطة «الإرهابية» للجماعة إلى ما هو أبعد من فلسطين: حيث اغتال اثنان من أعضائها اللورد «موين»، وزير الدولة البريطانى لشئون الشرق الأوسط، فى القاهرة فى نوفمبر 1944. فى وقت لاحق، هاجمت عصابة «شتيرن» المطارات وساحات السكك الحديدية والمنشآت الاستراتيجية الأخرى فى فلسطين، وعادة ما كانت تلك الهجمات ناجحة، على الرغم من تكبد العصابة خسائر فادحة فى صورة قتلى وأسرى. بعد إنشاء دولة إسرائيل (عام 1948)، تم قمع الجماعة، التى كانت دائما تدان من قبل القادة المعتدلين للجالية اليهودية فى فلسطين، وتم دمج بعض وحداتها فى قوات الدفاع الإسرائيلية. على عكس منظمة «إرجون تسفاى ليومى»، سلف حزب هيروت («الحرية»)، لم تنشئ عصابة «شتيرن» أى حزب سياسى لمواصلة برامجها السياسية». إلى هنا انتهى الاقتباس، لكن الموسوعة الهامة تؤكد على ربط تعريف تلك الجماعة بكلمات ذات صلة وهى: «الصهيونية» و«الإرهاب»...ومن المعروف أن أحد أهم أعضاء تلك العصابة كان «إسحاق شامير» رئيس وزراء إسرائيل الأسبق (1915ــ2012). ومن ذات المرجع، ها هو التوصيف البريطانى الكلاسيكى لعصابة أو منظمة «الهاجاناه» الصهيونية: « الهاجاناه (وتعنى بالعبرية: «الدفاع»)، منظمة عسكرية صهيونية تمثل غالبية اليهود فى فلسطين من عام 1920 إلى عام 1948. تم تنظيمها لمحاربة ثورات العرب الفلسطينيين ضد الاستيطان اليهودى فى فلسطين، وقد خضعت فى وقت مبكر لتأثير «الهستدروت» (الاتحاد العام للعمال). وعلى الرغم من أن سلطات الانتداب البريطانى كانت «تحظرها» وكانت مسلحة بشكل سيئ، إلا أنها تمكنت بشكل فعال من الدفاع عن المستوطنات اليهودية». وتواصل الموسوعة «كانت أنشطة «الهاجاناه» معتدلة، على الأقل حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، بما يتوافق مع سياسة «هافلاجا» (ضبط النفس) التى انتهجتها الطائفة اليهودية المنظمة؛ لقد عارضت الفلسفة السياسية والأنشطة الإرهابية لمنظمة «إرجون زفاى ليومى» وعصابة «شتيرن»... لكن بعد الحرب العالمية الثانية، عندما رفض البريطانيون فتح فلسطين أمام الهجرة اليهودية غير المحدودة، تحولت «الهاجاناه» إلى الأنشطة الإرهابية، فقصفت الجسور وخطوط السكك الحديدية والسفن المستخدمة لترحيل المهاجرين اليهود «غير الشرعيين». وبعد قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين (1947) ، ظهرت «الهاجاناه» إلى العلن كقوة دفاع عن الدولة اليهودية؛ واشتبكت علانية مع القوات البريطانية، ونجحت فى التغلب على القوات العسكرية للعرب الفلسطينيين وحلفائهم» انتهى الاقتباس.
وتجدر الإشارة إلى أن عصابة «إرجون» الإرهابية المشار إليها سابقا، كانت تخضع لقيادة «مناحم بيجن» رئيس الوزراء الأشهر، والذى أعطى أوامره بتفجير فندق «الملك داوود» فى القدس فى 22 يوليو عام 1946، وراح ضحية هذا العمل الإرهابى الخسيس 91 شخصا منهم 41 فلسطينيا، و28 من الإنجليز و17 من اليهود وخمسة من جنسيات أخرى.. وأصيب 45 بجروح متفاوتة.
تلك الممارسات الإرهابية التى لا ينكرها عدد كبير من اليهود، وفى مقدمتهم البرلمانى والوزير الراحل «جيرالد كوفمان» (1930ــ2017) الذى له العديد من المواقف الرافضة لإرهاب الدولة الذى تمارسه إسرائيل، التى أسست على إرهاب العصابات وتأبى أن تتخلص من أصولها، بل وتريد أن تذيق الفلسطينيين من ذات الكأس التى تجرعها اليهود على يد النازيين، وذلك على حد وصفه فى غير موضع. تلك الممارسات التى استخدمتها الحركة الصهيونية لاحتلال الأراضى واغتصابها من أصحابها، ثم للتوسع والاستيطان والاحتفاظ بالأراضى المنهوبة بأى ثمن، لا يمكن مقارنتها بمحاولة يائسة بدائية لفصائل المقاومة فى غزة لاسترداد الحقوق وفك الحصار، مهما كان اختلافنا مع توجهات تلك الفصائل فى ملفات عدة. تلك الفصائل التى أغلقت دونها كل البدائل السلمية، كيف لها أن تحقق أهدافها فى التحرر؟!
• • •
لطالما رفضت مشهد الرقص الاستعراضى بالبنادق فى مشاهد تستفز العالم، بعد عمليات كانت فيها غزة ضحية للاعتداء، أو بعد إطلاق صواريخ طائشة ضعيفة من فصائل المقاومة، لا تصيب أحدا ولا ينتج عنها أى أثر يذكر سوى الظهور بصورة المعتدى أمام عدسات الإعلام! بما يتسبب فى استباحة غزة والضفة لجيش الاحتلال!!. أما العملية الأخيرة فملابساتها مختلفة.. أولا هناك تجمد تام فى المسار الدبلوماسى وصلف صهيونى فى التعامل مع حل الدولتين، وقد مر على اتفاقية «أوسلو» ثلاثون عاما دون أى تقدم ملحوظ! علما بأن تلك الاتفاقية شهدت أول اعتراف «فلسطينى» مسئول بدولة إسرائيل.. ثانيا: هناك حصار عنيف تعانى منه غزة بالفعل، واعتداءات متكررة يتعرض لها شعب فلسطين فى مختلف البقاع.. ثالثا: هناك إصرار على انتهاك المقدسات الإسلامية واستنفار للمشاعر الملتهبة ضد ممارسات جيش الاحتلال… رابعا: هجمات المقاومة على غلاف غزة كانت أكثر تركيزا وتنظيما وتحقيقا لمستهدفات غير متوقعة، من شأنها أن تحرك المسار الدبلوماسى الراكد، إذا توافرت إرادة حقيقية فى تحقيق السلام!
لذا فليس أقل من التحرك سريعا من قبل جميع الدول العربية والمتعاطفة مع القضية الفلسطينية، لاستثمار هذا التطور لصالح المسار التفاوضى، الذى يسفر عن حلول أكثر عدالة لكل شعوب المنطقة.