بعد أكثر من شهر من بدء العدوان التى يشنه الكيان الصهيونى على غزة، عقب «طوفان الأقصى»، التى جاءت كرد فعل على الاحتلال وقتل وتشريد السكان الأصليين ونهب الثروات وتدنيس المقدسات. كان رد فعل البلدان الغربية، إزاء كل ما يحدث مثيرًا للغرابة.
الغرب ممثلا فى نطاق الحضارة وليس الجغرافيا، بما يشمل اليابان وأستراليا إضافة بالطبع إلى غالبية بلدان أوروبا الغربية والولايات المتحدة وكندا، هم الذين باتوا عقب استقلال البلدان النامية فى العالم الثالث، يملئون الدنيا صخبًا وعويلاً على حقوق الإنسان المهدرة فى تلك البلدن.
تارة يقومون بحجب المساعدات عن تلك البلدان، بعدما سلبوا مقدراتها إبان الاستعمار، وعمدوا إلى اعتبارها مصدرًا للمواد الخام فقط، وتارة أخرى يقومون بتجنيد منظمات حقوق الإنسان كى تقوم بتوصيف حال حقوق الإنسان فى تلك البلدان، وتارة ثالثة تقوم تلك البلدان بمد حركات المعارضة بالسلاح لمواجهة النظم المستقرة، وتارة تقوم بحصار بلدان وفرض عقوبات على نظمها الحاكمة بشكل ربما يفضى لمعاقبة الشعوب والحكام فى آنٍ.
ولقد أثبت التاريخ عديد المرات أن الغرض من تلك الضغوط الغربية كان ابتزاز تلك النظم، ولم يكن الغرض تحقيق أية مصلحة أو فائدة لجماعات المعارضة التى تقول بالاضطهاد. وقد تبين فى عديد من الأمثلة أنه حال نجاح الغرب فى تحقيق مآربه كانت النتيجة وصول نظم حكم عميلة على رأس تلك البلدان هى من سكت الغرب عن انتهاكاتها الفعلية لحقوق الإنسان (حالات شيلى وفنزويلا ونيكارجوا والبرازيل)، أو ترك تلك البلدان وقد أعمتها الفوضى وأصبحت موئلا للإرهاب وعدم الاستقرار الإقليمى (سوريا والعراق إنموذجًا).
ما يحدث من رد فعل للغرب عما يحدث فى فلسطين هو تأكيد لهذا التاريخ المشين للغرب، فهو بمثابة كيل بمكيالين وازدواج فاضح للمعايير (نموذج أوكرانيا ليس ببعيد). هذا الأمر ظهر جليا ليس فقط عبر مد المحتل الصهيونى بالسلاح لمواجهة أصحاب الأرض، وخرق جميع قرارات الأمم المتحدة، بما فيها مجلس الأمن، والداعية إلى حق تقرير المصير، وعودة اللاجئين وعدم شرعية بناء المستوطنات. بل برز اليوم فى السكوت على الانتهاكات الصهيونية اليومية فى قتل المدنيين وتشريد السكان واعتقالهم وهدم البيوت فوق رءوس أصحابها وتدنيس الحرم الشريف وهدم المستشفيات وفرض الحصار على أصحاب الأرض بمنع الغذاء عنهم وكذلك منع تقديم الخدمات كالمياه وموارد الطاقة، وكلها إما قادمة من دول الجوار العربى، أو ثروات منهوبة من الأرض العربية ولا يملكها العدو بداية. يضاف إلى كل ما سبق سعيه إلى مجاراة إسرائيل فى تسويق عملية تهجير السكان إلى مصر والأردن وغيرها من البلدان.
تكتمل الصورة بأبشع مناظرها بمحاولات منع وتحجيم المظاهرات فى ميادين وعواصم الغرب، وتزييف الإعلام من صحافة ومحطات تليفزيون لأوضاع الناس فى غزة، ومحاولة غسل أدمغة الشعوب فى الغرب بأن إسرائيل تتعرض للإبادة أو أنها تدافع عن نفسها وفقًا لمبدأ حق الدفاع الشرعى، رغم أن هذا المبدأ لا يمكن أن ينطبق على المحتل على وجه الإطلاق. كل هذه الصورة سقطت أمام الشعوب فى الغرب كما سقطت أما شعوب المنطقة العربية، فالمظاهرات عمت الشوارع والميادين فى البلدان والعواصم الغربية عنوة، والإعلام هناك بات يضيق ذرعًا من عدم المتابعة، بسبب عدم الموضوعية والانحياز الأعمى، ما جعله مؤخرًا يخرج عن السياق المرسوم له من خارجه، ويصلح كفة الميزان بعض الشىء.
على أن كل ما سبق لا يعنى أن الصورة داخل بلدان العالم الثالث وردية، وأن حالة حقوق الإنسان لا يشوبها شائبة، فهناك العديد والعديد من الانتهاكات، التى يجب الوقوف فى مواجهتها والزود عنها، لكن هذا الذود يجب أن يكون عبر الشعوب التى تقع تحت طائلتها. وهذا الأمر يجب أن يصبح أيضًا ملفتًا للقادة والحكام فى البلدان النامية المتهمة بانتهاك حقوق الإنسان، وهى بالقطع ليست بريئة من هذا الاتهام. من هنا فإن الدرس المستفاد من تلك الأزمة هو أن تلك البلدان عليها أن تعتمد فى بقائها على شعوبها، فهى محط الشرعية، وموئل الاستقرار، وبها وعبرها تتم ممارسة الحكم أو التداول السلمى للسلطة. ليس هذا فحسب، بل إن التعاون بين النظم المجاورة هو أيضا السبيل للاستقرار الإقليمى، وهنا نشير خصيصا إلى إيران التى يجب ترويضها واحتواؤها كى تكون سندًا وليس ندًا سواء فى مواجهة الصهيونية، أو فى منع ابتزاز الغرب لأعداء إيران طمعًا فى عقد صفقات الأسلحة بمليارات الدولارات، التى لو أنفق نصفها على التعاون الإقليمى بين طهران والدول العربية، لامتنع الكثيرين عن طلب عون زائف صهيو أمريكى.