رغم حكم المحكمة، السبت الماضى، على الرئيس السودانى المخلوع عمر البشير بالسجن عامين لإدانته بالثراء الحرام والمشبوه، والتعامل غير الشرعى فى النقد الأجنبى، إلا أن انصاره من الإسلاميين نظموا فى نفس اليوم ما أطلقوا عليه «مليونية الزحف الأخضر»، شارك فيها بحسب مراقبين محايدين عدة آلاف تأييدا له، ومطالبين بإسقاط حكومة الثورة فى السودان، وإلغاء القرارات بحل حزب المؤتمر الوطنى الذى كان يحكم السودان، وإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة!!
صحيح أن الشارع السودانى لم يهتم كثيرا بهذه «المليونية» التى دعت لها «جهة مجهولة» يقال إنهم إخوان السودان وشارك فيها العديد من الرموز الإسلامية، لكن المثير للدهشة هو المنطق ــ أو بالأحرى اللامنطق ــ الذى كان يحرك هؤلاء المشاركين فى هذه «المليونية» دفاعا عن البشير، فالرجل بعظمة لسانه اعترف أمام المحكمة بأنه حصل على ما قيمته 100 مليون دولار كمعونات من الخارج دون أن تعلم أجهزة الدولة عنها شيئا بالمخالفة لكل القوانين السودانية، وبدون أى رقابة من أى جهة فى الدولة، زاعما أنه كان ينفقها لحل بعض الأزمات الاقتصادية التى كانت تواجه السودانيين، وكأن السودان قد تحول بالفعل إلى جمهورية موز أو عزبة خاصة بالبشير، يتصرف فيها كما يشاء بدون رقيب ولا حسيب، فى نفس الوقت الذى يعرف فيه كل السودانيين أن أقارب البشير الذين ينتمون لفئات محدودى الدخل، أصبحوا فى عهده الميمون يمتلكون البنايات الفاخرة والأراضى المميزة!
لم يفهم هؤلاء الإسلاميون أن الدفاع عن البشير فى هذه الجريمة هو أكبر إساءة للإسلام نفسه، وأن «الدولة الإسلامية» التى يريدون استعادتها فى السودان، لم تكن أكثر من حكم مافيا يدير دولة بحجم قارة على طريقة على بابا والاربعين حرامى، وأن حكمها الرشيد يتطلب فقها جديدا يراعى التطور السياسى والفكرى والفلسفى الذى حققته البشرية على مدى القرون الماضية، لا أن يقف على أعتاب مفاهيم يسبغون عليها قداسة دينية، مع أنها لم تعد صالحة لمواجهة الاشكاليات الحالية فى مجتمعاتنا العربية والاسلامية بكل التحديات الداخلية والخارجية التى تكاد تعصف بها.
الثراء الحرام ليست تهمة البشير الوحيدة، هناك سجل متخم بالجرائم ارتكبه نظامه الفاسد على مدى 30 عاما، ففى بداية انقلاب البشير فى 30 يونيو 1989 أعدم عشرات الضباط فى محاكمة صورية لم تستغرق نصف ساعة بتهمة التخطيط لانقلاب عسكرى، ثم كمم الأفواه بتأميم السياسة وحصار الأحزاب وضرب حرية التعبير والصحافة، ثم شن حروب وصفها بالجهاد الإسلامى ضد الجنوبيين انتهت بموافقته على فصل الجنوب، بعد أن شرد الملايين منهم الذين حاصرتهم المجاعات التى راح ضحيتها المئات، فى نفس الوقت الذى كان أركان نظامه يكنزون ملايين الدولارات من احتكار السوق والهيمنة على كل عمليات التجارة فى البلاد.
أما الأخطر من كل ذلك فهو شن حروب إبادة عرقية ضد أهالى إقليم دارفور، فقتل منهم أكثر من 300 ألف مواطن، وشرد أكثر من مليونين آخرين بعد أن حرق قراهم وأجبرهم على السكن فى العراء وفى الخيام، وهو ما كرره ولكن بصوره أخف فى كردفان وفى مناطق أخرى بغرب وشرق السودان.
بحسب القوانين السودانية، قد يواجه البشير فى الغالب حكما بالإعدام شنقا قد ينفذ أو لا ينفذ بتسليمه للمحكة الجنائية الدولية، لكن المهمة العاجلة التى ينبغى أن نوليها الاهتمام الحقيقى هو تحليل تجربة الإسلام السياسى فى السودان بمكوناتها الفقهية، ومرجعياتها الفكرية، وتحالفاتها السياسية، وكيف أثر كل ذلك على حياة السودانيين أنفسهم وجعلها جحيما لا يطاق مع سقوط كل الخدمات المعيشية الساسية، ولماذا ثاروا على نظام كان يعتبر نفسه فى يوم من الأيام وريثا شرعيا وحيدا للخلافة العثمانية ليكون مقرا للخلافة الاسلامية الجديدة، تكون الخرطوم عاصمتها وبقية الدول الإسلامية ولايات تابعة لها!