هذا التراجع فى منح المرأة العربية حقها فى لعب دور فاعل فى الحياة السياسية البرلمانية العربية، كما أظهرته أخيرا نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة فى الأردن والكويت، على سبيل المثال، يحتاج إلى مراجعة متأنية لفهم أسبابه ودلالاته. فالنتائج المحبطة والتى وصلت إلى مستوى الكارثة السياسية فى انتخابات الكويت كانت عكس ما كان منتظرا، وضدا لتفسيرات ولاستشرافات علماء الاجتماع العرب منذ بضعة عقود بشأن المرأة العربية.
فعالِم الاجتماع العربى الشهير الدكتور حليم بركات كتب منذ أربعين سنة بأن المتغيرات الأساسية التى تنتج وتفسر مكانة المرأة الدونية فى المجتمعات العربية هى النظام المجتمعى العام السائد ونوعية البنى الاجتماعية وطبيعة توزيع العمل ومدى المشاركة فى عمليات الإنتاج. وأن تلك المتغيرات الاجتماعية ــ الاقتصادية لها تأثيراتها على نوع تجليات الثقافة السائدة من مثل المعتقدات الدينية، والأعراف القبلية والتقاليد العائلية، وكذلك تأثيراتها على الأوضاع النفسية للمرأة. والنتيجة لتفاعلات كل تلك العناصر فى المجتمعات العربية تقود لأن تكون مكانة المرأة العربية دونية. ولا تتغير مكانة المرأة، حسب عالِمنا حليم بركات، إلا إذا تغيرت أولا أوضاع المتغيرات الأساسية الاجتماعية ــ الاقتصادية الأربع.
لو راجعنا مسيرة المرأة العربية عبر الأربعين سنة الماضية لتبين لنا حدوث تغييرات هائلة فى تفاصل تلك المسيرة. فالازدياد الكبير المتنامى فى عدد الإناث الملتحقات بالتعليم العام والتعليم الجامعى قد أوجد كتلة عمالة نسائية فى أغلب التخصصات والمهن. وزادت أعداد النساء الملتحقات بمختلف قطاعات الإنتاج والخدمات، الأمر الذى عزز مكانتهن الاجتماعية فى الأسرة والحياة العامة. اليوم لا توجد ساحة نشاط اقتصادى إنتاجى أو ساحة نشاط خدمى اجتماعى إلا وتتواجد فيه المرأة العربية. ولقد أظهرت الحراكات الجماهيرية والثورية التى عمت الكثير من مدن الوطن العربى عبر العشر سنوات الماضية حضورا واضحا للمرأة العربية فى النضال السياسى، هذا إضافة لتبوء المرأة العربية مراكز سياسية رسمية كثيرة من مثل الوزارات والإدارات والسفارات وغيرها.
إذن فمتطلب حدوث تغيير كبير فى المتغيرات الأساسية الاقتصادية ــ الاجتماعية ــ السياسية التى ذكرها حليم بركات قد تم بشكل كبير وعميق.
فإذا كان الأمر كذلك فلماذا لم تستطع تلك التغيرات المجتمعية الجديدة أن تُحدث فعلها فى المتغيرات الوسطية الثقافية (المعتقدات الدينية والأعراف القبلية والتقاليد العائلية) بحيث يؤدى هذا إلى تغيير مكانة المرأة العربية الدونية السابقة، وبالتالى تحسين فرصها فى النجاح فى الانتخابات البرلمانية؟
أليس الفشل الذريع فى الانتخابات دليل على أن التأثيرات الثقافية فى الرجل العربى كانت سطحية ومظهرية وأن التخلف الثقافى بالنسبة لنظرة الرجل العربى للمرأة لا يزال قويا وعميقا؟ ألا يعنى أيضا أن كل تلك التغيرات الاجتماعية ــ الاقتصادية فى حياة المرأة العربية واستقلالها الاقتصادى الواضح وتحسن مكانتها الاجتماعية لم تفلح فى تغيير الوضع النفسى للمرأة العربية نفسها، بحيث يقنعها بالتصويت لأختها فى الانتخابات النيابية وعدم الخضوع لاعتبار نفسها واعتبار أخواتها فى مكانة دونية لا ترقى إلى لعب دور فى الحياة السياسية التشريعية؟
إذا كان بروز المرأة العربية المبهر فى الحياة الفكرية والأدبية والفنية، وفى الحياة الاقتصادية الإنتاجية والخدمية الأساسية، وفى الحياة السياسية النضالية الجماهيرية لم يستطيعوا جميعا أن يغيروا الصورة النمطية المتخلفة للمرأة العربية ويفسحوا المجال لها لتكمل مسيرتها الحضارية التى بدأتها منذ أوائل القرن الماضى وضحت بالكثير من أجل الوصول إلى نفس المستوى الذى وصل إليه الرجل العربى.. إذا كان هذا يحدث أمامنا فى حقل الانتخابات فإنه يحدث فى حقول كثيرة أخرى.
والسؤال هو: ما العمل إذن؟ وهل هو واقع خارج قناعات الرجل العربى والمرأة العربية التاريخية المتخلفة الجذرية؟ وإذا كان الجواب بنعم هل يقبع الجواب فى الالتجاء إلى القوانين والدساتير ونظام المحاصصة من أجل كسر الحلقة التى تدور حول نفسها، من أجل عدالة المساواة فى الفرص الحياتية فيما بين المرأة العربية والرجل العربى؟
ترك الأمر للقول الشهير «وفى هذا فليتنافس المتنافسون» لن يستطع مغالبة تراكم تاريخى هائل وعنيد فى مجالات الثقافة على الأخص. المرأة العربية المبهرة المبدعة والمظلومة تستحق أكثر من ذلك.