حاجة تِقرف.. حاجة تَغُم النَّفس. لا أنفكُّ أسمع الردَّين مُتعاقبين ومُتواترين كلَّما دار حوارٌ عام؛ قَصُر أو طال.
• • •
يأتي الفعلُ قَرِفَ في قواميس اللغةِ العربية بكسرِ الراءِ بمعنى تقزَّز ونَفَر، أو كَرِه وعاف. الفاعلُ قارِفٌ والمفعول به مَقروفٌ منه، وإذا قيل قرَّف الولد أخاه بتشديد الراء؛ فالمعنى أنه أثار اشمئزازَه، أما إذا جاء الفِعلُ بفتحِ الراء فقط، فقيل مثلًا: قَرَفَ فلانُ علانًا، فالقصد أنه عابه، وقَرَفَ شيئًا بالآخر أي خلطَه، وقَرَفَ أمرًا من الأمورِ أيّ قام به؛ ومنها يُقال: قَرَفَ لعياله، أيّ كسَبَ لهم ما يُعينهم على العَيش.
• • •
إذا صادفَ المرءُ ما أوقعَ في نَفسِه الغَضبَ والأسفَ قال؛ بلا قرف، وكثيرًا ما يصفُ الواحدُ حالَه في الدنيا بأنه قرفان، على وزن تعبان وزهقان؛ لكن الكلمةَ لا توجد في غالبِ القواميس والمَعاجِم إنما قد تُقاس على مثيلاتِها، فتكون صِفة مُشبهة تدلُّ على الثبوت. القرفانُ في العادةِ هو المُستاءُ المُمتَعِض والأسبابُ ولا شكَّ كثيرة؛
• • •
لا علاقة فيما يبدو بين الفِعلِ قَرف على اختلاف علاماتِ ضبطِه، وذاك المكان المُوحِش الذي يَسكنه المَوتى، والذي ينتَسِبُ إلى قبيلة "بني قرافة" يمنيَّة الأصول؛ إذ ارتحلت من مَقامِها في قديم الزَّمن، وتوَطَّنت تلَّ المُقطم بالقاهرة، ثم جعلت فيه مقابرَها، ومن اسمِها اشتُقَّ مُسمَّى القرافة.
• • •
يتلازمُ الفعلُ "اقترفَ" مع كل ما هو سيّء مُخجِل؛ فيقالُ اقتَرَفَ الذَّنبَ والقصد ارتكبَه وأتاه، واقترف الخطأ أو الإثمَ على المِنوال ذاته. لا يُقال أبدًا: اقترف الرَّجُل عملًا عظيمًا، وما مِن سَبَبٍ واضح إلا أن تكونَ العلاقةُ اللفظيَّة بين قَرِفَ واقتَرَف قد أسبَغَت صفاتِ القُّبح على كليهما وخصَّتهما بالمَثالِبِ وحدها.
• • •
الإحساسُ بالقَرف نسبيٌّ. هناك مَن يقرِفُ لمرأى الدماءِ ومن تُقرِّفه القذارةُ ويُزعجُه الوَسخ، ومَن لا يَحتمِلُ خُلقًا مُتدنيًا يثير غثيانه، ومَن يغدو في حالِ قرفٍ مُستديم إن عجزَ عن التكيُّف مع أوضاعٍ صَعبة، يبلغُ فيها الانحطاطُ البشريُّ مداه.
• • •
إذا ارتكب واحد سلوكًا معيبًا لا تقبله الذائقةُ العامةُ ولا تستسيغه، إنما تنفر منه وتتأذى؛ لوجَدَ مَن يَصيح به: الله يقرفك. ربما بَصَق أرضًا أو تمخَّط في يده، وربما أتى بتوصيف مُقَزز في كلامه. الدعوةُ بأن يتدخلَ الربُّ تعكسُ مدى انزعاج الداعي، ومِقدار رغبته في أن يتذوَّقَ المُقرِّفُ عقابَه الإلهي؛ فيحظى بمثل ما جَلبَ على الناس من ضِيق.
• • •
كثيرون هم من يطوفون اليوم بالشوارع والطرقات، ينبشون بأيديهم العاريةِ صَناديقِ القمامة وتلالها، يبحثون عن بقايا تركها آخرون أسعد حالًا. يبدو فعلُهم مُقرفًا ومُهينًا في الوقت ذاته، والمرءُ يخجلُ إذ يصفُه كهذا، بينما يجلس على مقعدِه ولم يَزل في مَأمَن مِن الكروب؛ لكن الخجلَ يُمسي أشدَّ وأعمقَ ما غُلَّت اليدُّ عن تقديم المُساعدة، وما تعذَّر كفُّ الأذى عن هؤلاءِ وعَصمُهم ذِلَّة الجوع.
• • •
القرفة مَشروب غنيّ المحتوى جمُّ الفوائد، يبثُّ النشاطَ في البدَن ويبعث على الدفء، كما يُعالج بعض أنواع السُّعال، ورغم حلاوة مذاقه؛ تشير دراساتٌ مُتعددة إلى أنه لا يرفع نسبة السُّكر في الدَّم. جرت العادةُ على مَزج القِرفةِ بالحليب؛ تخفيفًا من حِدَّة مذاقِها وتلطيفًا لحموضتها؛ بما يجعلها أكثر استساغةً بين جُدران المَعدة. ظهر في زَمنٍ لاحقٍ خليطُ القرفة والتفاح ولم يكُن شائعًا من قبل، فاحتلَّ بدوره مكانًا مُميزًا، وصار من المَطلوباتِ على قوائمِ المقاهي وغيرها، إلى أن صارت المشروباتُ أغلبها من الرفاهيةِ بمكان، فقد تجاوزت أسعار اللبن ما يُمكِن للعقلِ استيعابه، ولا حاجة للحديثِ عن التفاح.
• • •
قد يأتي امرؤ في ركابِه بالحظّ الحَسِن والخبرِ المُبهِج المُنتظَر، بينما يجلبُ آخر أسوأ ما يتوقَّع الناسُ أو ما لا يتوقعون على الإطلاق؛ وفي التفرِقَة بين هذا وذاك تُطلَق كلمةٌ واحدةٌ بليغة، يُفهَم المقصودُ منها بلا إفصاح ولا توضيح: قِرَف. القِرَف التي توافقنا على مَدلولها والتي نلفظُها بكسرِ القافِ وفتحِ الراء؛ تعني أن لكلّ شخصٍ طلَّة، ولكُلّ وجهٍ ما يُلازمُه ويُصاحبُه من تبِعات أينما ذهب؛ فإما أن يستبشرَ بمقدمِه الجالسون أو يتشاءموا ويَسعوا للانصراف، والحقُ أن النتائجَ مرهونةٌ بالأسباب لا بغيرها، لكن المُصادفاتِ إذ تقع؛ تُحرّض في النَّفسِ الشُّكوك، فإن تكرَّرت؛ غرسَت الفكرةَ في العقول، وبالغت العقولُ في استنتاجاتها فاتخذت مَوقفًا.