نشر موقع 180 مقالا للكاتب «ملاك عبدالله»... جاء فيه ما يلى..
لا عجب أن للدين سلطته الكبيرة على الشعوب، يشكل الدين فى مجتمعاتنا العربية والإسلامية بوصلة أو معيارا لا للخلاص الأخروى وحسب، إنما للتدبر الدنيوى، يلجأ المتدينون ــ بأغلبهم ــ عفويا إلى الدين فى مجالات عدة، للوقوف عند رأيه، واتخاذ ما يلزم من تدابير مكملة للنص الدينى.
يعتبر المجال الطبيعى، واحدا من المجالات التى تتأسس عليه مواقف وتفاسير دينية، لا سيما وأن النصوص الدينية أعطت الكثير من المبررات لتفسير ظواهر الطبيعة، ومنها الزلازل والفيضانات، بوصفها انتقاما أو غضبا من الله، أو كون الإله وحده له صلاحية التدخل فى بعض الظواهر، الاعتقاد بالعلاقة بين الدينى والطبيعى لا يقتصر على المتدينين فى مجتمعاتنا. فى أمريكا مثلا، وحتى يومنا هذا، يرفض بعض العلماء الإنجيليين الخوض فى دراسات وأبحاث تحد من الاحتباس الحرارى، بنظرهم هذا من عمل الرب، الذى وحده يدير الكون وينظمه، والأمثلة عن الآراء الدينية فى المسائل الطبيعية كثيرة، ففى العام 2014، شهدت المنطقة العربية ندرة فى هطول الأمطار، ما عرضها إلى أزمة شح فى المياه، وقتذاك، ضج المشهد بالخطب الدينية التى تقدم تفسيرا لندرة المتساقطات، وترجع سببه إلى ابتعاد الناس عن الدين، فضلا عن إقامة صلوات استسقاء.
وعلى سبيل المثال أيضا، اشتعلت عام 2016 حرائق فى مناطق من فلسطين المحتلة، فكتب عدد من الحاخامات اليهود وقتها أن سبب الحريق يعود إلى «غضب الرب» لعدم احترام الشعائر الدينية اليهودية، كما اندلعت حرائق من نوع آخر آنذاك عبر وسائل التواصل الاجتماعى بين جمهورين عربى وإسرائيلى؛ حيث اعتبر العرب أن الله وبتلك الحرائق إنما ينتقم من الصهاينة، زد على ذلك، أمثلة عدة تتوج فى وقتنا هذا باللجوء إلى الدين لمحاربة وباء كورونا المستجد!
بعض ردود الفعل الدينية على وباء كورونا
فى الخامس من الشهر الحالى، كتب الصحافى الصينى «ووفى يو» مقالة فى صحيفة «نيويورك تايمز» بعنوان: «هل فيروس الكورونا هو انتقام البنجول؟» استشهد فيه بمقولات من الكتب الصينية القديمة تحذر من أكل الحيوانات البرية، مثل البنجول والثعابين والخنزير، ويقول الكاتب إنه ثمة احتمالات بأن يكون الوباء قد انتقل من البنجول، ليعتبر فى نهاية المقال أن كورونا قد تكون ثأرا «بنجوليا» من البشر الذين لم يسترشدوا بالكتب الصينية القديمة.
أما الدكتور محمد خليفة البدرى، وهو مدرس أصول الفقه بجامعة الأزهر، فقد صرح أن البلاء «لا يحل إلا بذنب، ولا يرفع إلا بتوبة، وبالنظر إلى ما فعلته الصين مع المسلمين نجد الأمر عسيرا ألا نفسره على هذا النحو»، ويردف «أن الصين من الدول التى تعادى الدين عموما، فلا مانع من أن يكون ذلك نزل بسبب ذنوبهم وعدائهم لله».
يعنى ذلك أن المسلم، حتى لو كان صينيا وأصيب بمرض الكورونا، فذلك ليس بعلامة على سوء الخاتمة، وذهب الدكتور أيمن أبو عمر، وكيل وزارة الأوقاف ومدير عام الفتوى وبحوث الدعوة فى مصر إلى حد القول إن من مات بسبب فيروس كورونا «هو شهيد»!.
وفى السياق، أطلق رجل الدين الإيرانى البارز، على رضا بناهيان، جملة من التصريحات التى أشار فيها إلى أن انتشار فيروس كورونا يعتبر «مقدمة لظهور إمام آخر الزمان»، كما نقلت عنه وكالة «تسنيم» الإيرانية.
بدوره، اعتبر الحاخام المتشدد الناطق بالفرنسية، رون تشابا أن الوباء علامة على ظهور المسيح، وقال إن «جميع العلامات التى تحذر من مجىء المسيح أصبحت ظاهرة للعيان الآن ومتوفرة، ومن المأساة أن نظل غير مبالين»، على أن رجل الدين المسيحى اللبنانى الأب يوحنا خوند اعتبر أنه لولا الكورونا لوقعت حرب عالمية محت البشرية كلها «لأن أمريكا وإيران والصين كانت مثل الديوك على بعضها»!.
طرق دينية للعلاج من كورونا
وكما انتشرت الآراء الدينية التفسيرية لوباء كورونا، كان للعلاج الدينى نصيبه فى الانتشار أيضا، فقد ظهر أحد رجال الدين المسلمين فى فيديو مسجل معترضا على اتخاذ تدابير متشددة فى الأماكن المقدسة، قائلا إن الشفاء من هذا الوباء يقتصر على زيارة هذه الأماكن تحديدا، وقد يتلاقى هذا مع فتوى المرجع الدينى العراقى قاسم الطائى التى دعا فيها إلى الاستمرار بزيارة الأماكن الدينية وإقامة صلوات الجماعة والجمعة، على اعتبار أن «الفيروس لا يصيب المؤمنين».
وفى حين استأجر الكاهن المسيحى اللبنانى مجدى علاوى طائرة خاصة وحلق بها فوق لبنان لمباركته وحمايته من تفشى فيروس كورونا، نشرت إحدى الصحف اللبنانية منذ عشرة أيام خبرا حول ظهور القديس شربل لامرأة، طالبا منها أن «تأخذ ترابا من دير مار مارون فى عنايا وتغليه وتصفيه، ثم تنقله إلى مستشفى رفيق الحريرى فى بيروت لمعالجة المصابين بفيروس كورونا».
مذيع قناة الرحمة المصرية مثلا، أسامة حجازى، أطل على شاشة التلفاز ليؤكد أن النقاب والوضوء يشكلان علاجا فعالا لفيروس كورونا، معتبرا أنه لولا الحرج لأمرت منظمة الصحة العالمية دول العالم بأن تجبر مواطنيها على ارتداء النقاب لمواجهة فيروس كورونا.
أما إمام الجامع الأموى فى سوريا توفيق البوطى، فقد رأى أن «حبة البركة» التى تحدث عنها النبى محمد هى دواء للكورونا وأن «كل ما فى الأمر أن عليك أن تحسن تصنيعها واستثمار هذه المادة الدوائية بأسلوب علمى تقنى متطور».
وفى موريتانيا، نشر الشيخ يحظيه ولد داهى الذى يسير مركزا لعلاج السحر فى نواكشوط، تدوينة على صفحته قال فيها: «كورونا تعالج بالرقية الشرعية عند أحباب الرسول ولا داعى للقلق، ومستعدون للذهاب للصين». وأوضح لاحقا أن العلاج يتم بالقرآن الكريم وعشبة تعالج عدة أمراض مستعصية كان الرسول قد أخبر عنها.
وفى فلسطين المحتلة، وزع أحد الحاخامات مشروب «بيرة كورونا» على المؤمنين طالبا منهم احتساءه والدعاء إلى الله أن يحد من انتشار الوباء.
وعلى الهامش، كان لافتا أيضا أن رجل الدين الإيرانى مكارم الشيرازى أفتى لصحيفة «همدلى» الإيرانية بخصوص لقاح محتمل للفيروس من إسرائيل، قائلا: إنه «ما لم يكن العلاج فريدا من نوعه ولا بديلا عنه، فإن ذلك لا يشكل عقبة».
أما فى نيودلهى، فقد أقامت جموع من الناشطين الهندوس حفلا لشرب بول البقر، لوقاية أنفسهم من وباء كورونا الذى ضرب العالم.
الخلاصة
كل حدث مستجد أو طارئ يحمل معه فعل تعرية، يكاد يكون ذاك أشبه بسنة فى حياتنا، التعرية التى أتى بها فيروس كورونا المستجد مرتبطة بالفكر الدينى عند مختلف أتباع الديانات السماوية، الفكر الدينى الذى لا يتوانى عن تديين ما هو دنيوى، ولقد أدت تعريته إلى إلحاق جرح دينى لدى بعض المتدينين الذين وجدوا أنفسهم فى خضم حالة صراع، إذ كيف لهم أن يبتعدوا عن الأماكن التى هم فى العادة يلجأون إليها حين يعجز الطب عن الشفاء.. وكيف لهم أن يطبقوا بعض العلاجات التى لطالما تحدثوا عنها فى كتبهم الدينية من دون أن تؤدى إلى نتيجة!.
ولم تقتصر ردود الفعل هذه عند الناس بشكل عام، بل لازمت بعض رجال الدين كما تبين أعلاه، فكان أن شهدنا جدالات دينية مستجدة، تكشف عن عمق الهوة بين أصحاب الدين أو المذهب الواحد فى المنطق الذى يحكم فكرهم الدينى، عدا عن الجدل الدينى اللادينى الذى توسع مع انتشار هذا الفيروس.
ولعل إحدى إيجابيات التعرية، أن الفكر متى اصطدم بالواقع، ثم أظهر الواقع بطلانه، فإن ذلك لا بد أن يشكل دافعا اضطراريا نحو عقلنة هذا الفكر، وإذا ما كان الواقع اليوم يشى بأن الفكر الذى يعمل على تديين الدنيوى ثبت بطلانه، فهل سيكون المسعى لاحقا جديا فى السعى إلى الخلاص عبر الخلاص من تديين الدنيوى، كما يقول المفكر عبدالجبار الرفاعى؟
لقد علق الدكتور عبدالجبار الرفاعى أخيرا عبر صفحته الفيسبوك على ما يجرى: «أقرأ تفسيرات واقتراح علاجات غريبة لرجال دين عند الإصابة بفيروس #كورونا… المفارقة أن رجال الدين هؤلاء يسمحون لأنفسهم أن يتدخلوا بالطب وغيره من العلوم الحديثة، ويعطوا آراء على الضد من الخبراء فيها، لكنهم لا يسمحون للطبيب أو غيره من أهل العلم أن يفهم الدين أو أن يعطى رأيا فى فهم نصوصه، بذريعة أنه ليس متخصصا فى الدين كما يقولون».
أما الكاتب والمثقف اللبنانى الفضل شلق، فقد ذهب أبعد من الآخرين، بقوله «لقد انتصر العلم. هو الذى يشفى. على الناس بما فيهم رجال الدين، أن يصغوا إلى العلم. لا التعاويذ الدينية تنفع، ولا الابتهالات الدينية إلى المتسامى تنفع. يأخذ رجال الدين تعليماتهم حول السلوك اليومى من علماء العلم الحديث والتقنى لا من رجال دين آخرين. ليس فى كتاب مقدس أو مجموعة من الأحاديث النبوية أو الرأى الدينى أو القياس أو الإجماع أى فائدة بالنسبة لعموم البشر. عليهم أن ينصتوا لعلماء لم يسمعوهم إلا لماما فى الأحوال العادية. الآن يقود الدفة العلماء والممرضون. يملون الإجراءات التى يجب أن تتخذ».
هذا غيض من فيض النصوص، عسى أن تتبلور فى الأيام والأسابيع والأشهر المقبلة نقاشات جديدة وجدية حول المعرفة الدينية وعلاقتها بالعلوم الأخرى.
النص الأصلى