التداعيات الاقتصادية.. وحماية التنوّع - مدحت نافع - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 2:18 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

التداعيات الاقتصادية.. وحماية التنوّع

نشر فى : الإثنين 17 أبريل 2023 - 7:00 م | آخر تحديث : الإثنين 17 أبريل 2023 - 7:00 م
بدعوة كريمة من القس الدكتور أندريه زكى رئيس الطائفة الإنجيلية فى مصر، شاركت متحدثا فى المؤتمر الذى عقدته الهيئة القبطية الإنجيلية يومى 4 ــ 5 أبريل الحالى فى منتجع العين السخنة، بمشاركة عدد كبير من الحضور والمتحدثين، من سيدات ورجال الفكر وأقطاب الرأى والاقتصاد والعلوم السياسية والقانون والعلوم الاجتماعية ونواب البرلمان، وطائفة متنوعة من الشباب من الجنسين.

المؤتمر كان بعنوان التنوّع وآليات التضامن الاجتماعى، وقد كان التنوّع سمة غالبة على كلمات المتحدثين ومداخلات المشاركين، وإن كانت مفاهيمه ودلالاته قد تباينت فى رؤى الحضور. كان عنوان جلستى التى شاركنى فيها الأستاذ الفاضل مصباح قطب: «التداعيات الاقتصادية وحماية التنوّع». وقد راهنت على أن يسبقنى المتحدثون فى الجلستين الأوليين للمؤتمر، إلى تقديم إطار مناسب لإحكام المقصود بالتنوّع الثقافى، حتى لا يضيق فينسحب على المقصود الدينى الذى يفرضه السياق العام للدعوة، ولا يتسع إلى حد تسطيح الأفكار وتقديم محاضرات جامدة عن أهمية التسامح مع الآخر دون أدنى ترابط أو عمق.

وبغض النظر عن نتيجة الرهان، تعامل البعض مع مفهوم التنوّع الثقافى باعتباره نوعا من المخاطر التى يجب إدارتها، ورآه قليلون فرصة يجب اغتنامها، لكن الوقوف على حال التنوّع الثقافى فى مصر المعاصرة هو مقدمة ضرورية لفهم طبيعة التنوّع فى مصر وكيف يتم تعزيزه أو تناوله بصفة عامة.
• • •

تشير الأدبيات إلى أن التنوّع الثقافى له ثلاثة أبعاد هى: 1ــ البعد الأوّلى (الظاهر) الذى يتضمّن السلالة ــ والعرق ــ والنوع ــ والعمر ــ والإعاقة... إلى غير ذلك من عناصر تشكّل صورتنا الذهنية عن ذواتنا وكيفية تصورنا للعالم، وله التأثير الأقوى على جماعات العمل والمجتمع. 2ــ البعد الثانوى (المُدرَك) الذى يتضمّن الدين ــ والثقافة ــ والمستوى الاجتماعى ــ والتعليم ــ والجنسية... ويؤثر هذا البعد على تقديرنا لأنفسنا وتعريفنا لذواتنا. 3ــ البعد الأصلى (المتجذّر) ويتضمّن المعتقدات ــ والمدركات ــ والمشاعر ــ والقيم... ويعد سببا أصيلا للبعدين الأوّلى والثانوى.

أما صور التنوّع الثقافى فعادة ما تنقسم إلى: الجنس والعرق والإثنية، وقد عرّف رائد علم الاجتماع «ماكس ڤيبر» المجموعة الاثنية على أنها: ”تلك المجموعة التى تتميز باعتقاد أصيل راسخ بتشارك أفرادها فى أصل واحد.. ويستند هذا الاعتقاد إلى التشابه فى العادات والتقاليد وما يجمعهم من ذكريات الهجرة أو الاستعمار مما يساهم فى خلق روح المجتمع بغض النظر رابطة الدم». من هذا المنطلق يتضح أن مصر حاليا ليس بها درجة تذكر من التنوّع الثقافى، باستثناء سكان النوبة وبعض سكان المناطق البدوية، علما بأن المنتمين إلى أكبر ديانتين (الإسلام والمسيحية) لا يشكلان مجموعتين اثنيتين وفقا للتعريف المتقدّم.

يؤكد على الاستنتاج السابق تصنيف مصر بين الدول المتضمّنة فى مؤشر التنوّع الثقافى أصدره الباحث الألمانى «إركان جورين» فى دراسة له عام 2013 بعنوان «الآثار الاقتصادية للتنوع الثقافى المحلى وفى الدول المجاورة»، والتى قاس من خلالها حجم التنوع الثقافى فى 180 دولة حول العالم. وقد استنتج «جورين» أن الأشخاص الذين يتشاركون لغة ما، هم أكثر عرضة للمشاركة فى جوانب أخرى من ثقافتهم، ثم قام بإعطاء كل دولة درجة بين 0 و1، حيث 1 هو الأكثر تنوعا و0 هو الأقل تنوعا. وقد حصلت مصر على درجة 0.179 بما جعلها فى مرتبة متأخرة بين الدول موضوع الدراسة. وكانت قارة أفريقيا الأكثر تنوّعا وفق هذا المؤشر، بفضل مجموعاتها القبلية ولغاتها المتعددة. وجاءت دولة تشاد فى المرتبة الأولى عالميا بدرجة 0.85؛ إذ تضم تشاد ذات الـ 8.6 مليون نسمة، أكثر من مائة مجموعة عرقية، يتحدثون مائة لغة مختلفة! بينما كانت كندا الدولة الغربية الوحيدة من بين أكثر 20 دولة تنوعا.

وبينما اقتربت درجة التنوّع الثقافى فى دولة مثل ألمانيا الاتحادية بدولة الكونغو الديمقراطية، فإن التداعيات الاقتصادية لحال التنوّع الثقافى فى البلدين تتباين بشكل كبير. وهنا تلعب جودة المؤسسات دورا حيويا مهما فى تحويل التنوّع الثقافى إلى فرصة وقيمة مضافة، عوضا عن تشكيلها لتهديد يؤثر سلبا على الوضع الاقتصادى والأمنى فى البلاد. التنوّع الثقافى عابر الجنسيات فى كل من المملكة المتحدة وألمانيا وهولندا، حقق ما يعرف «بالهدم الخلّق» فى تلك المجتمعات الأوروبية، نظرا لجودة المؤسسات التى ساهمت فى احتواء وهضم التنوّع، لخلق ثقافة مشتركة فى كل بلد. فى حين تتضمن منطقة الصراع العربى ــ الإسرائيلى فى فلسطين المحتلة، قيما ثقافية متعددة الجنسيات، ولكنها لا تتمتع بمؤسسات جيدة، ولم تطوّر ثقافة مشتركة بين السكان، مما يشير إلى أن عملية نقل التكنولوجيا التى يقوم بها أصحاب الثقافات متعددة الجنسيات قد تأثرت سلبا بضعف الثقة، الناتجة عن غياب الثقافة المشتركة والمؤسسات التى تحتويها وتصونها.

ويؤثر تدنّى الثقة سلبا على العلاقات الاقتصادية بين الدول، ولاسيما الاستثمار الأجنبى المباشر والتجارة واستثمارات الحافظة. وقد كشفت دراسة حالة فى روسيا الاتحادية أن نحو 180 جنسية متنوّعة تشكل 20٪ من السكان، والباقى (أى 80٪) من الروس. وقد لاحظ «ليمونوف» و«نيسينا» (2016) اختلافات كبيرة فى التنوّع العرقى وتنوع مكان الولادة عبر المناطق الروسية. وقد ارتبطت تلك الاختلافات بخصائص سكانية معينة، وأنشطة اقتصادية محددة، فى المناطق ذات الكثافة السكانية العالية، وكان التنوّع الثقافى للمهاجرين الداخليين والوافدين من الخارج مرتبطا سلبا بالإنتاجية، وعليه كانت العلاقة سلبية بين التنوع العرقى والإنفاق العام على التعليم فى بعض المناطق الروسية.
• • •

من ناحية أخرى، تشير الفرضية المؤيدة للأثر الإيجابى للتنوّع الثقافى من خلال تأثيره على الإنتاجية، إلى كون هذا المؤثر يحقق الازدهار الاقتصادى، من خلال حفز الإبداع والمنافسة وتحسين الإنتاجية. وتتميز العديد من الدول فى أوروبا بسيادة الفرضية المؤيدة للإنتاجية، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى جودة وكفاءة المؤسسات التى تسهل استثمار التنوّع الثقافى لتحسين الإنتاجية. وتجدر الإشارة إلى أن المؤسسات التى توفر الحماية القانونية للأقليات، وتضمن حماية الممتلكات من المصادرة، وتضمن إنفاذ العقود، وتسهل الاستفادة من الخدمات العامة، تقلل الضرر الذى يمكن أن تلحقه مجموعة عرقية بأخرى.

وقد سلّط كل من أليسينا ولا فيرارا (2005) الضوء على ثلاث خصائص داعمة لتلك الفرضية، وهى القدرة والخبرة والثقافة، إذ يعزز التنوّع فى تلك الخصائص من الإبداع والابتكار. أما هونج وبيج (1998) فقد سبق أن اختبرا تلك الفرضية وأثبتا تفوّق مجموعة غير متجانسة من الأشخاص على مجموعة ماهرة متجانسة فى حل المشكلات بطرق مبتكرة. كذلك أضاف «سوبل وآخرون» مفهوم «رأس المال الثقافى» الذى يأتى به المهاجرون إلى الموطن المضيف، لتعزيز الأنشطة المبتكرة شريطة أن ترعاها مؤسسات جيدة. كما حقق ليفى (2007) فى الآثار الاقتصادية للتنوع الثقافى فى المملكة المتحدة بناء على عدة أقسام للسكان... وفى جميع المناطق وجد أن معدلات الأعمال التجارية للمقيمين مدى الحياة، كانت أقل من المهاجرين الداخليين والوافدين من الخارج. كما لاحظ «جويلك» و«سرفانتس» (2001) فى دراسة لهما حول التنقل الدولى بين المهاجرين المهرة، أنه يساعد على تنمية المعرفة العلمية والتكنولوجية لتلبية الطلب على المهارات. وفى جميع الأحوال تفضّل الشركات الكبرى العمل فى منطقة يوجد بها تنوع ثقافى، للحصول على معرفة اقتصادية جديدة من المهاجرين المهرة ورجال الأعمال.

وقد أعلنت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشئون اللاجئين أن مصر تستضيف أكثر من ٢٨٨ ألف شخص من طالبى اللجوء المسجلين واللاجئين من ٦٠ دولة مختلفة، غالبيتهم من سوريا تليها السودان وجنوب السودان وإريتريا وإثيوبيا واليمن والصومال. كما أعلن الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء أن إجمالى عدد الأجانب العاملين بالقطاع الخاص والاستثمارى فى مصر قد بلغ 11404 من مختلف الجنسيات عام 2020 مقابــل 14950 عام 2019 بنسبة انخفاض قدرها 23.7%. يمثل الأجانب الوافدون من الدول الآسيوية (غير العربية) العدد الأكبر بنسبة 42.2% معظمهم من بنجلاديش بعدد 1255 أجنبيا بنسبة 26.1%. ويمثل نشاط الصناعات التحويلية العدد الأكبر من حيث عدد العاملين الأجانب بنسبة 33.3٪ وذلك فيما بلغ عدد العاملين فى مصر 27.8 مليون نحو 25 مليون منهم يعملون فى قطاع خاص. ويمكن أن تستفيد مصر من ذلك التنوّع الثقافى فى الوافدين لتحقيق طفرة اقتصادية، وقد أعلن حديثا رئيس تجمع رجال الأعمال السورى المصرى، أن استثمارات السوريين قد بلغت 800 مليون دولار أمريكى. وتذكر منظمة اليونسكو أن «مصر بلد به تنوع هائل فى أشكال التعبير الثقافى.. ولطالما كانت حكومته تؤمن بقوة بأهمية العمل والعيش معا».

وقد كانت مصر الحديثة فى ظل حكم الدولة العلوية حاضنة للعديد من الثقافات الأوروبية، وكان لذلك التنوّع أثره البالغ على تطور الإنتاجية وتحسين مستوى الرفاهة الاقتصادية، حيث تضاعف عدد الأوروبيين فى مصر من قرابة 10 آلاف نسمة عام 1848، إلى نحو 100 ألف فى ثمانينيات القرن التاسع عشر، وقد تنوّعت جنسيات الأجانب بين الفرنسيين والإنجليز والإيطاليين واليونانيين والأرمن. فيما بلغ تعداد الأجانب بالقاهرة طبقا لإحصاء 3 مايو 1882 ما قدره 22422 نسمة من إجمالى سكان القاهرة الذين كان يبلغ عددهم 374838 نسمة. أكبر الجاليات عددا كانت الجالية اليونانية (7000) ثم الفرنسيون (5000) ثم الإيطاليون (3367). يقول تيودور روثستين صاحب كتاب Egypt’s ruin المعرّب تاريخ المسألة المصرية (1875ــ1910): «إن مصر فى عهد سعيد باشا، كانت من أكثر بلاد الشرق رخاء بلا جدال؛ إذ كانت نفقات المعيشة فيها منخفضة إلى درجة لا تكاد تصدق، حيث كان قرش صاغ واحد كافيا لسد حاجات أسرة بأكملها فى اليوم على سبيل المثال، هذا فى الوقت نفسه الذى ازدادت فيه العناية بالمشروعات العامة كالسكك الحديدية والقناطر الخيرية وترع الرى الجديدة، فضلا عن بدء إدخال التلغراف والطلمبات البخارية...».
مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات