من بين إشكاليات المجتمعات العربية والإسلامية الكبرى تبرز إشكالية الصراعات الدينية والمذهبية المتطرفة كأحد أخطر الإشكاليات وأفجعها وأعقدها. ذلك أنها ظاهرة مركبة تجمع فى أسبابها ومكوناتها السياسة والإقتصاد والإعلام والثقافة والدين. ولذلك تكثر وتتضارب من حولها الأقاويل.
•••
غير أن هناك جوانب مفصليَّة يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار عند التعامل مع هذه الظاهرة.
أولا: فى قلب هذه الظاهرة تكمن مشكلة ثقافية ـ تاريخية لعبت دورا كبيرا فى إيصالنا إلى الوضع المأساوى الذى نعيشه اليوم. ذلك أن وراء تلك الصٍراعات سلوكيات التعصٍب والتطرف.
فالمتعصب المتطرف هو الذى انغلق عقله أمام كل حوار مع الآخر بحيث يرفض الأخذ والعطاء والحلول الوسط. من الضرورى أن نعى بأن بناء هذا العقل المنغلق المتعصب قد بدأ بعد سقوط أكبر وأهم مدرسة فى العقلانية، ونعنى بها مدرسة المعتزلة الفقهية الجامعة بين الدين والفلسفة، المعلية لشأن العقل فى فهم الدين.
على أثر ذلك دخل العقل المسلم فى سلسلة من المدارس والشخصيات الفقهية المعلية لشأن المحافظة والتشدد والتزمت بدءا بالتشدد الفكرى داخل المدرستين الحنبلية والأشعرية، مرورا بالموقف العدائى للفلسفة من قبل الإمام الغزالى فى كتابه الشهير «تهافت الفلسفة» والإمام أبن تيمية فى قوله المشهور: «من تمنطق فقد تزندق»، وانتهاء بمدارس: «جاهلية القرن العشرين» من أمثال المرحومين سيد قطب ومحمد قطب.
والنتيجة كانت فقها متشددا وأحيانا متزمتا قاد إلى انغلاق العقل المسلم وتهيئته، فى الغالب بدون قصد، لممارسة سلوك العنف الجهادى التكفيرى الذى انفلت من عقاله فى طول وعرض بلدان العرب والمسلمين وأدخلنا فى الجحيم الذى نعيشه يوميا وتدمى قلوبنا من جراء وحشيته وهمجيته.
هذه الثقافة لن تصلحها قرارات سياسية ولا ممارسات أمنية هى الآخرى عنفية، وإنما ستحتاج لمواجهتها إلى ثقافة فقهية مستنيرة عقلانية ترسخ وتنشر مقاصد الدين الكبرى بما يرضى العدالة الإلهية ويستجيب لحاجات الإنسان المتطورة المتغيرة عبر العصور.
•••
ثانيا: عبر التاريخ استعملت الفروقات والخلافات الدينية والمذهبية فى ساحات ألعاب السياسة، وذلك من أجل ترجيح كفة هذه الجماعة أو إضعاف تلك.
وإذن فما نلمسه فى مجتمعاتنا العربية حاليا من استغلال انتهازى سياسى عبثى للانقسامات الدينية والمذهبية هو استمرار للظاهرة فى تاريخنا العربى والإسلامى. لكنه استغلال متطرف إلى أبعد الحدود فى انتهازيته، من أجل مصالح داخلية أو إقليمية أو دولية ومن أجل لعبة التوازنات التى تتبدل وتتغير كما تفعل الحرباء.
وعندما يتم الإستغلال من خلال مال وفير وأسلحة فتاكة وتنسيق مع الأغراب من صهاينة وأعداء تاريخيين للأمة، فإن ما حدث فى التاريخ يصبح مضاعفا فى الحاضر وخطرا هائلا على المستقبل. فاذا أضيف إلى ذلك إعلام فاجر يشيطن ويمارس لعبة الإفناء المعنوى للآخر ويكذب ليل نهار فان المسرح العربى يهيئ لكارثة مرعبة كبرى.
•••
ثالثا: قد تخفت هذه الظاهرة تحت ضربات ومذابح الطائرات بلا طيار أو اغتيالات قادتها من قبل مختلف مؤسسات الأمن التجسسية أو بواسطة قوانين مكافحة الإرهاب الثأرية والجائرة أحيانا.
لكنها لن تموت إلا من خلال مواجهتين: الأولى هى المواجهة من خلال ثقافة فقهية عقلانية تفك إسار العقل المسلم من محنته التاريخية التى أوجزناها سابقا. أما المواجهة الثانية فمن خلال انتقال المجتمعات العربية إلى نوع ومستوى معقولين من الممارسة الديموقراطية.
عند ذاك سيعلو الولاء للمواطنة المتساوية على الولاءات الفرعية الدينية والطائفية والقبلية والعرقية. عند ذاك ستحل الحوارات الطائفية المنفتحة العقلانية محل الصراعات المتطرفة فيما بين عقول منغلقة على ذاتها وبالتالى غير متسامحة مع الآخرين.
المواجهتان تذهبان إلى أعماق الإشكالية فتعالجانها بتغييرات جذرية كبرى بدلا من الإكتفاء بخطوات سياسية وأمنية هى فى الغالب عابثة وعبثية ومؤقتة.