نشر موقع 180 مقالا بتاريخ 14 يونيو للكاتب أمين قمورية، تناول فيه انشغال رئيس الوزراء العراقى بالأزمة اللبنانية، مشيرا إلى المشكلات التى تعانى منها دولته ولبنان.. نعرض منه ما يلى:
منذ زمن بعيد، لم أسمع مسئولا لبنانيا يتحدث بشغف وحب عن لبنان، كما سمعت رئيس وزراء العراق مصطفى الكاظمى يتحدث عن لبنان وليس فقط عن عراقه.
هذا الرجل عرف الوطن الصغير من شماله إلى جنوبه. عاصمته ومدنه، كما القرى والجبال والعائلات. عاش فيه نصف لبنانى، عمل فيه وأقام صداقات وعلاقات على امتداد خريطته. لم يميز بين لبنانى وآخر، بين منطقة وأخرى، بين انتماء وآخر.
صار لبنان اليوم شغلا شاغلا للرجل من بين انشغالات سياسية كثيرة برغم الأعباء العراقية الثقيلة ومنها انسداد سياسى داخلى قد يجر هذا البلد العربى الشقيق إلى متاهات خطيرة.
فى منزله الأنيق على ضفة دجلة فى قلب المنطقة الخضراء البغدادية. التقيته، مع ثلاثة زملاء لبنانيين. هذا المنزل الذى لم يبارحه منذ تولى إدارة مؤسسة «الذاكرة العراقية»، ثم مجلة «الأسبوعية»، وبقى فيه رئيسا للمخابرات الوطنية ثم رئيسا للوزراء، وهو نفسه الذى تعرض فيه لمحاولات اغتيال عدة كان آخرها قبل شهور بطائرات مسيرة. منزل يُوحى بأثاثه الحديث والزيتيات التى تغطى جدرانه البيض، بأنك فى بيت مثقف وليس فى بيت سياسى تقليدى.
على مدى ثلاث ساعات ونيف من اللقاء، كانت كلمة لبنان حاضرة دائما مع ابتسامة مصطفى الكاظمى المحببة. لبنان، «هو سنغافورة الشرق»، هكذا يجب أن يكون. بلدكم يمتلك كل المقومات اللازمة حتى يكون مثيلا لهذه الظاهرة الآسيوية. سنغافورة بلد صغير جدا مساحته لا تجاوز مساحة محافظة لبنانية (728 كيلومترا مربعا)، وعدد سكانه يوازى عدد سكان لبنان تقريبا (نحو ستة ملايين)، ولا يملك الكثير من الموارد الطبيعية، لكنه بفضل السياسات الاقتصادية والتعليمية والاستثمارية التى اتبعها، تمكن فى عقود قليلة من تصدر واجهة المراكز التجارية والمالية والتعليمية والخدماتية فى العالم. يذكر الكاظمى، أن سنغافورة مثل لبنان، عانت ما عانت قبل انطلاقتها المذهلة، لكنها تمكنت بسرعة قياسية من تصدر السباقات الاقتصادية العالمية. هذا البلد لفظته ماليزيا من اتحادها، بسبب اضطراباته الإثنية ومشكلاته الكثيرة، وبكى أهله ورئيس وزرائه لى كوان عندما طردوا من الاتحاد وباتوا وحيدين. لكنهم سرعان ما جبهوا التحدى، بتحدى التنمية والازدهار والتعليم حتى صارت سنغافورة اليوم قبلة أنظار المعمورة.
يقول الكاظمى: لبنان يملك أكثر بكثير مما كانت تملك سنغافورة. هو الجامعة والمدرسة فى الشرق. المستشفى والطبيب. الإعلام الحر والمهنى المتمرس والمنفتح. هو الفن والثقافة والإبداع. الخبرات الممتازة فى المجالات السياحية والخدمية والمالية والاستثمارية. لبنان هو اللبنانى المغترب والمتفوق فى بلاد الغربة ولا يزال مرتبطا ارتباطا وثيقا بوطنه الأم، والأهم من ذلك كله، هو التنوع والاندماج ما بين المتنوعين برغم ما يعترى ذلك من شوائب هى وليدة السياسة، وهذا كنز إذا أحسن أهل لبنان استثماره لفعلوا المعجزات. لكن، لا خلاص للبنان إلا بإرادة اللبنانيين وبتوافقهم وبحبهم لبلدهم، وعدا ذلك فإن الباقى أوهام ولن يساعد أحد لبنان واللبنانيين إذا لم يساعدوا هم أنفسهم، وهى العبارة السحرية التى بات يُرددها معظم المسئولين العرب والأجانب فى السنتين الأخيرتين.
عدم انتظار التسويات
حكم العراق ليس نزهة أو منصبا تشريفيا، فكيف مع تراجع سلطة الدولة والمؤسسات ومرجعية القانون لمصلحة مرجعيات ما قبل الدولة، سواء الطائفية أو المذهبية أو الجهوية أو العشائرية وغيرها من قوى أمر واقع؟
ومع ارتفاع وتيرة التشابك بين الداخل والخارج واحتدام الصراع فى الإقليم وخصوصا فى العراق نفسه، تصير مهمة أن تحكم أشبه بالمستحيلات، ومع ذلك يؤكد رئيس الوزراء الشاب أن الشأن اللبنانى حاضر كالشأن العراقى على جدول أعماله الداخلى والخارجى، يقول: «فى الأمس كان لبنان بندا أساسيا فى حديثى الهاتفى مع العاهل الأردنى الملك عبدالله الثانى الذى بدوره على تواصل دائم مع رئيس الوزراء نجيب ميقاتى (اجتمع الأخيران قبل أيام قليلة وحصل تواصل بعد ذلك بين المسئولين اللبنانى والعراقى أيضا) لمواكبة المستجدات اللبنانية. كذلك الأمر مع الرئيس المصرى عبدالفتاح السيسى ومع الرئيس الجديد لدولة الإمارات محمد بن زايد. كما أن لبنان حاضر دائما فى جدول أعمال المحادثات الإيرانية السعودية التى يرعاها العراق فى بغداد والتى قطعت» مراحل جيدة ومتقدمة حتى الآن. كذلك كانت للبنان حصة كبيرة فى المحادثات التى «أجريتها هنا» مع الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، وكذلك مع الرئيس التركى رجب طيب أردوغان. ومع ذلك يعود الكاظمى ويُشدد على أهمية الحوار اللبنانى كخشبة خلاص أساسية، وعدم انتظار نتائج التسويات الدولية أو الإقليمية فى عالم يتغير على مدى الساعة.
ليس زمن المخلصين
ولا تغيب عن ذهن رئيس وزراء العراق التفاصيل المتعلقة بإعادة بناء مرفأ بيروت والمشاريع المتعلقة بالكهرباء ومواصلة إمداد لبنان بالمحروقات، وأزمة ترسيم الحدود البحرية واستخراج غاز المتوسط، كما لا تغيب عنه متاهات السياسة اللبنانية وزواريب المحاصصة الطائفية، وأحجية الثلث المعطل، ونظريات المؤامرة ولعبة الأمم، فهو رئيس حكومة العراق، البلد الذى صار ولبنان رديفين فى السياسة والممارسة والمصطلحات: العرقنة واللبننة، المحاصصة والثلث المعطل، تقديس للصلاحيات وانتهاك دائم للدستور والقانون، فساد مستفحل ولا وجود لفاسدين معلنين، جرائم من كل العيارات والسجن فقط لصغار اللصوص، حريات مطلقة منها حق القتل والاغتيال وتشكيل العصابات المسلحة أما الديموقراطية فمجرد عنوان يذبح كل يوم فى مسلخ التوافقية وحقوق المكونات. سقط الديكتاتور فى العراق، ونبت مكانه لدى كل مكون أو جماعة أو منطقة ديكتاتور صغير يمارس هوايات الديكتاتور الكبير نفسها. فى لبنان، صارت آمال بعض اللبنانيين معلقة على ظهر ديكتاتور لعله يخلصهم من لعنة أمراء الحرب والسلام الصغار بعدما فقدوا الأمل بظهور مخلص ما.
العراق المُشتبك والمتشابك
أزمة الاستعصاء السياسى فى العراق بلغت حدها فى الساعات الأخيرة بعد الاستقالة الجماعية لنواب التيار الصدرى فى البرلمان العراقى، وهى الكتلة الأكبر بـ73 مقعدا من إجمالى 329 مقعدا فى البرلمان، ومن شأن ذلك مفاقمة الأزمة السياسية فى البلاد. وبما أن البرلمان العراقى فى إجازة الصيف ولن يعود للانعقاد إلا بعد يوم 9 أغسطس المقبل، يمكن القول إن الوضع الحالى سيظل مجمدا على ما هو عليه، على أساس أن استقالة كتلة التيار الصدرى لن تكون نهائية إلا بعد أن يتم التصويت على قبولها فى جلسة عامة.
وخلال تلك الفترة ستظل حكومة الكاظمى تؤدى مهامها كحكومة تصريف أعمال، بالتوازى مع استمرار المفاوضات من خلف الأبواب المغلقة فى محاولة للتوصل إلى حلول توافقية قبل اللجوء إلى حل البرلمان والعودة مرة أخرى إلى صناديق الاقتراع.
ويمكن القول إن الكاظمى كان يمثل، منذ ظهور نتائج الانتخابات، الحل الوسط أو الاحتمال الأقرب، فهل تتم العودة إلى هذا الحل كمخرج للأزمة أو الجمود الحالي؟ الإجابة إلى حد كبير قد تكون لدى الإطار التنسيقى وظهيره الداعم الحشد الشعبى وليس التيار الصدرى.
وبرغم الانسداد الحالى وإمكان أن يؤثر ذلك على عمل الحكومة ومعنويات العراقيين، فإن الكاظمى يشدد على ضرورة أن لا يؤدى ذلك إلى الإحباط وجلد الذات، ويؤكد أن حكومته «تملك رؤية لبناء الدولة وقد قدمناـ برغم التحديات والمشكلات. العديد من المشاريع برغم أن هناك من لا يريدنا أن ننجح ويعمل بكل ما بوسعه من أجل إفشال أى خطوة نجاح تحققها الحكومة».
ومع إقراره بالمشكلات التى تواجه العراق على صعيد ملفات مهمة مثل الكهرباء والملف المائى والخدمات يشير الكاظمى إلى أن العراق يحقق نجاحات أمنية مهمة وأبرزها اعتقال العشرات من كبار الإرهابيين، وهو ما أدى إلى الحد من العمليات الإرهابية.
لكن النجاح الأبرز يتمثل فى إعادة النظر فى دور العراق وإنتاج قراءة سياسية مغايرة للوضع الجيوسياسى للعراق، وذلك عبر التحول من سرديات الصراع إلى سرديات السلام، سواء عبر تحويل الساحة العراقية إلى منطلق للمشاريع الإقليمية، أو حتى فى اعتماد دبلوماسية المسار الثانى، المتمثلة فى خلق حالة توازن إقليمي/ عربى مع الدور الإيرانى فى العراق.. وعدا عن رعاية بغداد للحوار السعودى الإيرانى الذى يتوقع أن «يُختتم قريبا بنتائج طيبة»، فإن الكاظمى يُلمح إلى أن بلاده ترعى حوارا يشمل ثلاث دول أخرى.
المشرق الجديد
أما الأمر الآخر، الذى لا يقل أهمية فهو إطلاق مشروع «المشرق الجديد» الذى يضم العراق ومصر والأردن، وهو مشروع اقتصادى على النسق الأوروبى، ويعد طفرة كبيرة فى العلاقات بين الدول الثلاث، ويمكن أن يحقق تكاملا بينها لما تمتلكه من ثقل اقتصادى وبشرى وسياسى يسهم بتحقيق نهضة وتنمية شاملة فى المنطقة. فهذه الدول الثلاث تُشكل أكثر من 160 مليون نسمة، وناتجها المحلى الاجمالى السنوى يتجاوز الـ 400 مليار دولار. ومن شأنه يعطى مقاربة جديدة لمنطقة الشرق الأوسط يعد قوة للدول المشاركة فيه ويعطيها مساحة وموقعا وصوتا مسموعا فى ما يُمكن أن يُطرح للمنطقة مستقبلا.
ويطمح الكاظمى فى انضمام لبنان قريبا إلى المشروع المشرقى لعله يكون مُعينا له ما بعد انهياره الاقتصادى والمالى ومخرجا له من أزماته بحكم ما قد يوفره من إعادة بث الحياة فى شرايينه الاقتصادية لا سيما المعابر والمرافئ وخطوط النفط والمصافى وبطبيعة الحال التسهيلات المالية، كما أن المشروع المشرقى متاحٌ أيضا لسوريا لاحقا بعد انتهاء ازمتها السياسية لا سيما أن الدول الثلاث الأعضاء فيه ترحب بعودة سوريا إلى الحضن العربى، وتاليا يمكن أن يكون رافعة لإعادة إعمار سوريا بعد انتهاء الحرب.
النص الأصلي