حَظَت الألقابُ في عهودٍ ماضية بأهميَّة وتقدير، حملت معاني مُحدَّدة، ووُزِعَت بحساب، بل وصيغَت بها المراسيمُ وصدرت المَنشورات. لا يُنادَى شخصٌ بلقبٍ أقلَّ من مكانتِه وإلا كانت رسالةَ استهانةٍ وتحقير، ولا يُكنى واحدٌ بلقبٍ أعلى من قيمتِه إلا لغرضٍ وترتيب. سَمِعت في بعضِ الأعمال الدرامية القديمة من يُخاطِب آخرَ بتعبير "دولتكم" ومن يُزيد الفخامةَ ويُغالي مُطلِقًا على مُحدثِه "دولة الباشا". الدَوْلةُ هنا لقبٌ فاخر، ناطقٌ بمرتبةٍ من مراتبِ النرجسيةِ والغرور وعلى كل حال؛ لم تختفِ الألقابُ كما أريد لها مِن قديم، بل وُضِعَت في صندوقٍ وتعرَّضت للهزّ والرجرجة، ثم أُلقيَت فتساقطت على الناسِ حسبما اتفق، ولم يعد اللقبُ عنوانًا ولا دليلًا.
• • •
تشير كلمة دولة في معاجم اللغة العربية إلى مجموع كلمتين هما الاستيلاء والغلبة، وتطلق على هؤلاء الأفراد الذين يقطنون إقليمًا بعينه ويتمتعون بنظام سياسي وشخصية معنوية. دال أي سقط وانهار، وإذا قيل دالت دولتُه فالقصد زال نفوذُه وتراجع، وإذا دالت دَوْلةُ الاستبداد فقد انتهى وجودها، وسُميت البلدانُ بالدُّوَل لأنها تقوم وتنتعش وتبلغُ أوجَ الازدهار، ثم تدور الأيام فإذا بها تأفل وتذبُل وتفقد نضارتَها وعزَّها. تتكرَّر هذه الدورةُ كل ردحٍ من الزمان حسبما تقضي الظروفُ، ويرى الحكماءُ وعلماءُ الاجتماع أن الشدائدَ تصنع رجالًا أقوياء، يقيمون دولةً تتمتَّع بالترف؛ لكن الترفَ يترك الرجالَ ضعفاء، فيوقعون الدولةَ في الشِدَّة، وعلى هذا المِنوالِ تسير الأمور.
• • •
الدولةُ القويةُ قادرة بحُكم التعريفِ على فَرضِ إرادتِها وتحقيقِ أهدافِها وبَسْطِ سيطرتِها، إذا صدر عنها أمرٌ؛ فامتثالٌ من الدُّول الأخرى وخضوع، وإذا لوَّحت وهدَّدت؛ هَنَّ الآخرون. سلاحُها مَعونةٌ اقتصادية أو مَصلحةٌ تجاريَّة أو قوةٌ عسكريَّة؛ تؤدي من خلالِها دورَ المُنقذِ الحامي. الدولةُ الضعيفةُ في المُقابِل لا تملك تنفيذَ مشيئتها، ولا في مقدروها سوى الانصياع والتنفيذ، ربما تحفظ ماءَ وجهها بمُناوشةٍ لفظيةٍ عابرة، أو بغضبٍ مُفتعَل، وقد تُعلِن بعضَ المرات تحديًا سافرًا؛ لكن هذه كلَّها لا تتعدَّى الحدودَ المَعروفةَ، ولا تنتهي عادةً إلى تغيير مَلموس في مَوَازينِ القوى.
• • •
تحوز دولُ المَنبع مصدرَ قوةٍ طبيعيّ، فحدودها الجغرافية تضمُّ بداياتِ الأنهار؛ منها تبدأ ثم تسير في طريقها انحدارًا لتمرَّ بأراضٍ مُتعددة. لدوَلِ المَنبع حقوقُ مياهٍ لا شكَّ فيها، لكن لكلّ مَن مرَّ به النهرُ نصيبًا؛ تقرره القوانينُ وتحفِظه العهودُ وتصونه المواثيقُ الدوليةُ والأعراف. يُفترَض أن توزَّع الأنصبةُ بما لا يُخِلُّ بحقّ دولةٍ دون أخرى؛ لكن الأقوى لا ينفكّ يسود ويطغى، ويقتنصُ لنفسِه مزايا ومنافعَ لا تكون في كثيرِ الأحيان عادلة.
• • •
ثمَّة دولةٌ عريقةٌ؛ تنهل من ميراثِها عبر الأزمان، ودولةٌ ليست لها في الأرضِ جذور؛ تحاول أن تهيئَ لنفسها تاريخًا وحضارةً بكلّ ما أوتيَت من حيلة. لا عيب في المُحاولة والاجتهاد؛ إنما في السَّطو على ما للغير، وفي اصطناعِ ما لا أصل له ولا جِذر، والحقُّ أن التغاضيَ عن عامل الوقتِ يظلُّ مُستحيلًا في بعض المَواضع، فما أنضجته القرونُ؛ لا يتسنى الحصولُ عليه في أشهرٍ أو حتى سنين.
• • •
تذكر كتبُ التاريخ حركةَ عدم الانحياز التي نشأت في خمسينيات القرن العشرين، عازمة على تجنُّب الانضمامِ إلى طرفٍ مُتناحِر ضدَّ آخر. شكَّل نهرو وبروزتيتو مع عبد الناصر جبهةً كان لها بريقها في ذاك الحين، لكن هاتيك اختيار بات من الترَفِ في وقتنا الحالي؛ فغضُّ البصر عن الصراعاتِ الراهنةِ، والانعزالُ عما يُصاغ مِن تحالفاتٍ جديدة، وتجاهُل ما يُعاد خلقُه من عداوات؛ لم يعد مَسلكًا مُغنيًا عن ورطةٍ سياسيةٍ ماثلة، ولا باستطاعته أن يضمنَ السلامةَ والنجاة، ولا أن يكفُلَ للشعوبِ حياةً آمنةً مُستقِرَّة. لا مَحَلَّ اليومَ للَوْنٍ رماديّ مُحايد، فالألوانُ كلُّها صارت زاعقةً، والتلوُّن بأحدِها ضرورة.
• • •
ثمَّة دولٌ لم تزَل في طورِ النمُوّ؛ تعطَّلت مسيرتُها وطالها النعاسُ، وأخرى أكملت مراحلَ نموّها وصارت فتيةً يافعةً تلوح بزندِها وتتوق لإثباتِ جدارتِها، وثالثةٌ نالت حظَّها من السيادة والريادة، ثم انتقلت إلى مرحلةِ الشيخوخةِ وباتت في انتظارِ القضاءِ المَحتوم. بين الثلاث علاقاتٌ واختباراتٌ، أما النتائج فلا تبدو على الخريطةِ مَحسومة.
• • •
إذ يقالُ رجلُ دوْلة؛ فالقصد أن له خبرةً واسعةً في إدارة شئون الحكم، هو قادرٌ على التحرُّك بمرونةٍ في أروقته، مُطلعٌ على فحوى الدهاليز، ضالعٌ في تشكيلِ المَواقفِ وصناعةِ القرارات. رَجُلُ الدَوْلةِ كما قد يتصوره المَرءُ؛ شخصٌ ذو خبرةٍ وباع، رزينُ الكلمةِ، ثابتُ الجأشِ، حاضرُ الذهن؛ لكنَّ التصوُّرات تخيبُ بعضَ الأحيان، وتظهر الصورةُ مَهزوزة مُضحِكة.
• • •
للدَوْلةِ هيكلٌ وأركانٌ ونظام، ولها أيضًا هيبة، لكن تعريف هذه الهيبة يبدو غائمًا؛ فمشاعر المواطنُ إزاءها تقومُ مراتٍ على الاحترامِ والتقديرِ، ومرات أخرى تقتَصر على الخَوْف، وقد لا يكون في الأفقِ المَسدودِ هذا ولا ذاك؛ إنما مَحض خواء.
• • •
في حديث بن خلدون عن الدولةِ ما يثير الفكر، والعجيب أن كثيرَه لم يزل صالحًا للتطبيق، وبعضَه يُعاد اختباره. العناوين التي وضعها منذ قرون تغري ولا شكَّ بالقراءة، خاصة مع استخدام الأسلوب التقريريّ من قبيل: "في أن الهِرمَ إذا نزل بالدولةِ لا يرتفع"، و"في أن التجارةَ من السلطانِ مُضرَّة بالرعايا مُفسِدةٌ للجباية". بين فصولِ المقدمة وأبوابِها رحلةٌ مُثيرة تفصل حياةَ الدولِ وتجعل دراستها متعة للباحثين.