لوحة الجحيم - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 11:28 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

لوحة الجحيم

نشر فى : السبت 17 أغسطس 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : السبت 17 أغسطس 2013 - 8:00 ص

التقيت فى الفترة الماضية أصدقاءً وصديقاتٍ كُثر، وتَلَقَّيت اتصالاتٍ عديدةٍ وبادرت بمثلِها. لم يكن فحوى اللقاءات والأحاديث كما جرت العادة فى هذا الوقت من العام؛ تَبَادُل التهانى بالعيد والسؤال عن الصحة والأحوال، فقد أصبح الشغل الشاغل للناس أكثرهم، تلك التطورات المتتالية على الساحة المأزومة، التى لا تفتر ولو للحظة واحدة.

انقضت المحادثات التى امتد بعضها لساعة أو ما يزيد، فى عرض رؤى سياسية متناقضة تتناول الوضع الحالى، ومِن عَجَبٍ إننا بادرنا جميعاً وبمجرد إلقاء التحية السريعة، إلى إعلان مواقفنا الشخصية قبل أى شيء آخر، وانبرينا نسرد مبرراتها متحفزين، وكأنما نحمل على اختلاف مشاربنا اتهاماتٍ معلقة فوق الرءوس؛ تطاردنا، وتَقُضُّ مضاجعنا.

●●●

كانت الحوارات تتشعب وتستطيل، لكنها أبداً لا تخرج من دائرة البحث عن مبررات وأسانيد، يحاول بعضنا الهرب من النقاش الذى لا يصل إلى مرفأ، لكنه يعود بعد جهد قصير إلى النقطة ذاتها، بلا نتيجة وبغير إرادة واعية. أتملص من الجدل المحتد بين أطراف صارت متعادية؛ إلى أن أحتد بدورى وأكتشف أنا الأخرى إننى اندمجت فى محاولة تبرير رأيى مثلما راح الأصدقاء جميعهم يفعلون.

انكفأ كلٌ على ذاته يحاول حمايتها من الغمز واللمز وهجمات المعسكر المناوئ ومن احتمالات التخوين المشرعة كما السيوف فوق الرقاب وقد صارت المحافل واللقاءات مثلها مثل مواقع التواصل الاجتماعية وعلى رأسها الفيس بوك، ساحة للعراك؛ يلتزم مستخدمها بإعلان موقفه وصَفِّ دفاعاته ومبرراته، ويستفيض فى تسفيه مُخَالِفِيه كلما أُوتِيَ دليلٌ يثبت صحة انحيازه، بل ويحذف من قائمة أصدقائه فى أحيان كثيرة هؤلاء الذين انحازوا إلى الجانب المقابل، واختاروا معسكر «العدو»، وبعد إتمام الحذف ينشر على صفحته إنه قام باستبعاد غير المرغوب فيهم، وتَخَلَّصَ بنجاح من «المُلَوِّثَات»، ثم يُهَدِّد بأنه سوف يفعل المثل بكل من يجرؤ على مخالفته فى المستقبل، فيَتَلَقَّى المباركة والتأييد. كذلك راح الكتاب والمفكرون يدفعون عن أنفسهم تهماً منتظرة من خلال أعمدتهم ومقالاتهم، ويتلمسون الحجج والأسباب حتى وإن لم تبد مقنعة، عسى أن تشفع لهم عند الضرورة وفى ظل تقلبات لا مأمن منها.

●●●

أظن أن عملية التبرير المكثفة تلك، والمتطرفة فى أحيان كثيرة، ما هى إلا وسيلة دفاعية تعكس شعوراً عميقاً بعدم الارتياح، بأن الموقف المُتَبَنَّى أياً كان؛ ليس مقنعاً بالقدر الكافى لصاحبه، يجيء الدفاع عن المواقف وتبريرها عنيفاً متجاوزاُ فى أغلب الأحيان، لكن العنف والتجاوز لا يعنيان دوماً قوة المنطق وسلامته وبقدر ما يُغالى الشخص فى تلويث الآخر وتحقيره، بقدر ما يفضح حجم قلقه وعدم انسجامه يأتى الغضب والصراخ من موضع هشاشة لا قوة كما تأتى المبررات من موقع اعتذار لا ثقة.

ثمة إحساس بوجود خطأ ما؛ فالخيارات المطروحة جميعها محفوفة بالشوائب مليئة بالثغرات وقد اضطر كل منا لانتقاء الثوب الأقرب إليه وارتداه وهو مدرك إن ثوبه هذا يحمل نقاطاً سوداء ثم إننا رحنا مِن بَعد؛ نحاكم بعضنا البعض ونَنْصُبُ الأقفاص والمشانق.

يصف دانتى فى الجزء الأول من الكوميديا الإلهية، كيف يتم تعذيب هؤلاء الذين ترددوا ولم ينضموا إلى أى حزب من الأحزاب المتصارعة، فيُظهِرَهُم عُرَاة يلسعهم النحل عقاباً على ترددهم، تَخَاذُلِهم عن نصرة فريق ضد آخر. لدينا الآن مجموعة موازية من البشر يمكننا أن نطلق عليها فعلياً «طائفة المنبوذين»؛ الذين لم ينضموا إلى أى معسكر أو حزب؛ المترددين مثلما وَصَفَ دانتى، الموصومين بالرومانسية والمثالية الحمقاء، الحالمين بحلول تخلو من المنغصات كلها؛ حيث لا عسكر ولا دولة دينية ولا وجوه خدمت نظام قديم. 

●●●

أظن أن أكثر طائفة نالتها اللعنات هى طائفة المنبوذين تلك؛ إذ يَنصَبُّ عليها اللوم والتقريع دون توقف وتَطَالُها اللسعات من الجوانب كافة مع ذلك تظل على إحجامها وترددها ولا تفتأُ تُفصِحُ عن مَخَاوِفٍ متعددة تُحيط بما يجرى على الأرض. برغم سيل الأخبار الذى لا ينقطع صباحاً أو مساء تظل هناك معلومات محجوبة، كَمُّ الزيف أكبر من الحقيقة والتساؤلات كثيرة لمن يرغب فى ترك سلامه النفسى جانباً.

فى وجود معسكرين متصارعين يظن كلاهما أنه يمتلك اليقين وبظهور طائفة المنبوذين التى يحتفظ أعضاؤها بقدرٍ وافرٍ من الشكوك تكتمل اللوحة لوحة الجحيم التى رسمها دانتى ويبقى الجميع فى انتظار الانتقال إلى اللوحة التالية؛ حيث التطهر من الذنوب.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات