تَــــــقَاعُــد - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 12:47 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تَــــــقَاعُــد

نشر فى : الجمعة 17 سبتمبر 2021 - 8:05 م | آخر تحديث : الجمعة 17 سبتمبر 2021 - 8:05 م

قالت صديقةٌ قديمةٌ عادت مِن سفر طويل، قَضت مُعظمه في عملٍ جاد دؤوب؛ إنها ترغب في التغيير. كانت تمارس تخصُّصها الدقيق وِفق نظامٍ ثابت، يوفر لها ما يكفي حاجاتِها الأساسيةِ ويزيد، تلتزم بالضوابطِ الصارمة وتعرف يقينًا ما لها وما عليها. تربي أبناءَها في أفضل مدارس، وترفه عن نفسِها قدر المتاح، تدَّخر للمستقبل ما استطاعت، وتلبّي رغبات العائلة في حدود المقبول.
•••
لم تصِل بعد سنَّ التقاعد؛ لكنها قررت إنهاءَ عقدها، وحزمت حقائبها ودارت على أعقابِها، ولما تعجَّب المحيطون بها اعترفت أن شيئًا لم يضايقها؛ لكنها تنشُد الجديد. تسلَّمت عملًا حكوميًا كانت على قوتِه قبل السفر، ظنَّت أن سنواتٍ تتري في سرعة؛ كانت كفيلةً بتغيير الحالِ وتقويمه؛ لكنها رأت الثوبَ نفسَه والعوارَ نفسَه والثقوبَ قد اتسعت في محلِّها؛ فانسحبت خطوةً للوراء، وعادت تحدثنا عن رغبتِها في التقاعد والتغيير.
•••
ثمَّة تقاعد إجباريّ تقرره القوانين، وتثبته بلا مجاملة شهادات الميلاد. في الوقت المُحدَّد؛ يُحال الشخصُ إلى حياةٍ يُفترَض بها أن تكون أكثر هدوءًا، وأقلَّ إرهاقًا، وأرحبَ صدرًا. يُعفى من الإجهاد اليوميّ، ومن الالتزام بمواعيد حضورٍ وانصراف، ومن تحمُّل مسئوليةٍ أداها طيلة العمر بانتظام، أو كهذا ينبغي أن يكون.
•••
ينتظر بعضُ الناسِ بلوغَ سِن التقاعد بفارغ صبر. يرسمون خططًا لمرحلةٍ ذهبيةٍ يقررون فيها تعويضَ ما فاتهم وسط انشغالاتٍ واحتياجاتٍ كان حتمًا أن تُستوفى، وواجباتٍ كان إنجازها فرضًا لا بد وأن يُؤتى. لم يُمهَلوا فرصةَ الاستمتاع وسط الضُغوط؛ وإذا بالوقت قد حان وإذا هم منطلقون. بعضٌ آخر يخافُ التقاعدَ ويربطه بمشاعر سلبية؛ تدور في مُجملها حول انقضاء العمر، ووهنِ الجسدِ وأفولِ الطاقة. يهرب الخائفُ ما استطاع، ويمد سنواتِ خدمته ما أمكن، ويتشبث بمكانِه ما باتت فيه الروح.
•••
مِن التقاعد ما هو إيجابيّ وما هو بتعريفه مُميت. لي مِن الأصدقاءِ والأقرباءِ مَن تحولوا بعد سنواتٍ من بلوغ سنّ المعاش، إلى مقاعد وأرائك أُضيفَت لما يحويه البيت. جلسةً لا تتبدل وضع مُتجَمِد، ملابس قد لا تُخلع في اليومِ ولو مرة، وغيابٌ عن الزمنِ والأحداث. تقبع الشاشةُ في مكانِها صماء، وتتراكم الصحفُ دون تجعيدةٍ واحدة في أوراقها، وقد تطرق الشمسُ النوافذَ مرارًا فلا تجد مَن يرحب بها ويستضيفها ولو دقائق معدودة. توصيل الطلباتِ إلى باب البيت نجدةٌ لهؤلاء؛ فالخروج إلى الشارع مَشقَّة لا تُحتَمَل، وارتياد المَحالِ أمر مُزعج، والاضطرار إلى مُحادثةِ آخرين عبءٌ ثقيلٌ يحسبون له ألفَ حساب. يموت هؤلاء دون أن يموتوا، فأزمتهم لا تتعلَّق باعتلال الجسدِ أو الضعفِ والكبر؛ إنما بعزيمةٍ هرِمَت، وإرادةٍ مالت وانحنت، وشغفٍ صار في حكم المُنقرِضات.
•••
بعضٌ ثالثٌ مثل صديقتي؛ ينتخب نوعًا متميزًا مِن التقاعد، اختيار تصنعه إرادةٌ كاملةٌ حيَّة، لا يأمل منه صاحبُه راحةً ولا يفتش فيه عن هدوءٍ مفقود، إنما ينحو لاستبدال حياةٍ طازجة، بأخرى ركدت مياهُها وأسن فيها الطموح، وتحوَّلت مفرداتُها إلى تقليدٍ واعتيادٍ؛ لا يُشبع ولا يُغني من جوع؛ والجوع في هذه الحال يكون لبدايةٍ حرةٍ لا تحفُّها القيود. تريد صديقتي مكانًا جديدًا خارج الحدود أو داخلها، ومهنةً جديدة قد لا تمُت لمهنتها الأصليةِ بصِلة، وروابطَ جيرةٍ وزمالةٍ تدشنها، وعلاقاتٍ تنشئها من لبنةٍ أولى وأخرى تدفعها بعيدًا عنها وتنسى ما علقَ بها من ذكريات. تريد تقاعدًا من وظائفها المُتعددة؛ مِهنية واجتماعية واقتصادية، وانتقالًا إلى مساراتٍ ذات رائحة أشهى؛ توقظ ما تعطَّل مِن قدرات ورغبات وتؤجج الفضول.
•••
يقول قائلٌ ما أراد إنهاء ماضٍ وبدءَ حاضر: نقطة ومِن أول السطر. وتقول صديقتي دون بوح بالكلمات: نقطةٌ وكراسٌ جديد.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات