انحشرت في المقعد الخلفي للسيارة بين عملاقين ألمانيين. حنيت رأسي بصعوبة ليتمكن الضابط في الكشك الذي نمر بجانبه من رؤية وجهي. تفحصني باهتمام. ناولني جواز سفري قائلا: "السيد لوكاس أولمان". الجواز لا يشبه دفتري الأخضر المميز. كان جواز سفر سويديا ذا غلاف أسود. أعدته إليه وقلت ببراءة: "اسمي ليس لوكاس وأنا مصري ولست سويديا". نظرة الهلع على وجهه لا تنسى. وكذا الجملة التي همس بها جاري الألماني: "أحدهم سينفى إلى أصقاع سيبيريا".
تجربة السفر بالسيارة خارج برلين الغربية قبل سقوط السور عام ١٩٨٩ كانت غرائبية. انت تسافر من مدينة ألمانية غربية إلى أخرى تتبع الدولة ذاتها ولكنك مضطر لعبور ألمانيا الشرقية مرتين لأن برلين الغربية كانت جزيرة مسورة داخل بحر الشرق. مرة تدخلها ومرة تخرج منها إلى ألمانيا الغربية.
كان هذا بالنسبة لألمانيا الشرقية مصدرا هاما من مصادر الحصول على العملة الصعبة أي الماركات الغربية، ففرضت بداية من عام 1951 رسوما على الراغبين في العبور للغرب قدرت وقتها بالمارك الشرقي وتراوحت قيمتها من خمسة ماركات إلى خمسين ماركا، تدفع بالمارك الغربي بسعر تحويل واحد إلى واحد. القيمة الحقيقية كانت ماركا غربيا إلى ثمانية ماركات شرقية. استمرأ الشرقيون الحصول على العملة الصعبة من أقرانهم بهذا الشكل فرفعوا الرسوم إلى ثلاثة أضعافها عام 1955. احتج الغربيون فخفضت ثانية. عام 1980 وافقت ألمانيا الغربية على أن دفع خمسين مليون مارك ألماني سنويا في مقابل إعفاء المسافرين من الرسوم.
كنا عام في ثمانية وثمانين. مسافر بحرا إلى فنلدنا من مدينة ساحلية في شمال المانيا اسمها ترافيمونده. يقتضي الوصول إليها أن أخرج من برلين إلى هامبورج أولا. توجهت إلى مكتب "ميتفارسنتراله" في محطة زوو. واحد من مراكز عديدة تسهل لك أن تصحب مسافرا في سيارته الخاصة، مقابل مبلغ يقل كثيرا عن تذكرة الباص أو القطار.
في يوم السفر التقيت مع قائد السيارة الذي سيقلني عبر ألمانيا الشرقية. وصلت متأخرا فكان نصيب "الحشر" في المقعد الخلفي بين مسافرين آخرين. سنسافر مساء وستستغرق الرحلة بضع ساعات عبر طريق "سريع". السرعة لن تتجاوز مئة كيلومتر في الساعة. لا يسمح بالخروج عن الطريق المراقب والمحاط بأبراج الحراسة والجنود المدججين بالسلاح والكلاب البوليسية. هناك استراحات مخصصة لمسافري الغرب يمكن التوقف فيها والتزود بالوقود أو الطعام.
في نقطة "برافو" الحدودية مرت سيارتنا على كشك حراسة أول. تناول الضابط جوازات السفر وتفحص وجوهنا ثم وضعها على سير متحرك ينقلها عبر أنبوب مغطى حيث تفحص في كشك آخر قبل إعادتها لأصحابها. طابور السيارات تحرك ببطء. يفترض أن نستعيد جوازاتنا عند الكشك الثاني بعد فحصها. هناك اكتشفنا أن جوازي استبدل بجواز لشخص آخر غادر في سيارة سبقتنا. لا أعلم أي درجة من السكر أو النعاس كان يعاني منها السيد أولمان كي يأخذ جوازي، ولا مقدار التعب الذي جعل ضابطا حازما يخلط جواز سفر سويدي بآخر مصري!
حالة من الذعر سادت المكان. وجهوا سيارتنا لركن منفصل وانطلق سيارة حرس حدود تسابق الريح لإيقاف السيارة التي سبقتنا. عادوا جميعا بعد نصف ساعة وعلى وجوه المسافرين ملامح تتراوح بين القلق والذعر والسخرية. رأيناهم على البعد ولم يسمح لنا بالنزول أو الحديث معهم. ناولني ضابط جواز سفري بفظاظة كما لو كنت السبب في المشكلة ولسان حاله يقول "وديتونا ف داهية الله يخرب بيوتكم". مال جاري وهمس في أذني مرة أخرى: "أؤكد لك.. أحدهم سينفى في الصباح إلى سيبيريا".
(ذكريات عن الحياة في برلين قبل الوحدة الألمانية بمناسبة مرور ثلاثين عاما على انهيار السور)