شَغَف - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 11:29 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

شَغَف

نشر فى : الجمعة 18 يناير 2019 - 8:30 م | آخر تحديث : الجمعة 18 يناير 2019 - 8:30 م

لا يأتي حديثٌ عن شَغفٍ بأمر مِن الأمور؛ إلا واستدعى الذهنُ كبارَ الفنانين وعظمائهم، وولعَهم الطاغي بما يصنعون، ولا يأتي ذكر الفنانين ووَهَجِهم؛ إلا وطافت أرواح بعض الراحلين مِنهم بالذاكرة، وجدَّدت أثرًا تركوه. مِن بين هؤلاء الذين امتد شَغفهم ليسعَ الحياةَ كُلَّها؛ يبرز اسم "صباح" التي عاشت عمرًا مديدًا، لم تسمح للحظةٍ مِنه بالهروب؛ لم تدع الدقائقَ والثوانيَ تمر مرورًا سهلًا دون أن تمسكَ بها، وتصنع منها ما يبهجها ويُبهِج مَن أحبَّها. الحقُّ أن كثيرين انتقدوا مَسلكها، وكثيرين لم يعجبهم شَغفَها بالحياة، رأوا في أفعالها ما يخدش ركودَهم ويعريه، وفي إقدامها ما يُهين إحجامَهم عن الشَغف بأيٍ مِن الأشياء.
***
الشَغَفُ في المَعاجم العربية هو نَبَتَ فيهِ الأَخْضَرُ، وهو كذلك غلافُ القلبِ، ويُقال شَغَفَه الحُبُّ أي؛ وصَل إلى شَغافِ قلبِه وغَشيه، وشُغِف المرءُ بشيء، أي؛ أُولِعَ به. كثيرًا ما نَصِف شخصًا بأنه "شَغُوف"، وتلك صيغةٌ تحمل في طياتها المُبالغة، مثلها مثل شَكُور، صَبُور، ورَؤُوف؛ فالشَغفُ بطبيعته ذُروَة.
***
هناك مَن يتملَّكه الشغفُ تجاه السفرِ والترحال، ومَن يشغف برائحةِ القهوة في الصباح، وهناك مَن لا يفتر ألقه كُلَّما خَطَّ حكايةً أو روايةً، ولا ينقضي شَغفُه إلا مع نقطة الانتهاء. هناك أيضًا مَن يجد سعادةً جَمَّة في صنع قِطعة أثاث؛ قد لا يكون في حاجة إليها، لكنه مَشغُوف بدقّ المِسمار في الخشبِ، واستخدام الغراءِ، ثم النظر إلى ما خَلقت يداهُ في الفراغ.
***
الشَغَفُ مَقرون في عديد الأحيان بعاطفةِ الحبّ بين البشر، وكثيرًا ما ورد في سِيَر العشّاق السابقين واللاحقين؛ وقد أنشد جميلٌ في بُثينة قائلًا: ”لقَد شُغِفَتْ نَفسِي ، بُثَينَ ، بذِكرِكم ... كمَا شُغِفَ المَخمورُ، يا بَثنَ، بالخمرِ“، ولا أدلَّ على وَلَه الشاعر بمَحبوبته مِن نَسبه إليها، فلا يُطرَح اسمُه مُنفردًا بل يُقال؛ جميلُ بُثينة. مِن قديم الشعر أيضًا: ”إني لأهواك غير ذي كذب، قد شفَّ مني الأحشاءُ والشغفُ“، والمقصود هنا أن داءَ العشق قد مَسَّ القلبَ وأمرضه؛ بما لا ينفع معه دواء.

***
في الحبِّ والحَربِ؛ الشَغفُ سواءٌ، وصولٌ لدرجاتٍ مِن التفاني والتمام، حالٌ مِن الجزل تكتنف المَشغُوفَ إزاء ما يفعل، لمعة عينين وسعادة غامرة واهتمام أصيل، وحماسة يبثها في ما يُنتِج؛ عظُمت قيمته أو صغُر. الشَغَفُ مُحرِّكٌ ومُحَرِّض؛ فلإن غاب عن الأفعالِ صارت مُحمَّلةً بالمَلل، مُثقَلةً بالنَمَطية، وإذا لم يجد المَرءُ ما يُفتَتَن به، غدا مُفرغَ الروح، مَنزوع الهمَّة، وإن امتلك اثنان قدرًا مساويًا مِن المهارة والحِرفة والتمَكُّن، امتاز أحدهما على الآخر بشَغفِه. لا يستوى مُعلِّمٌ شَغُوف بتوصيل ما في رأسه للطلاب، أو عاملٌ شَغُوف بإصلاح ما فَسَد، بزملاء مِهنةٍ لا يكترثون؛ المَشغوفون يصنعون الفارق.
***
يكون الشَغَفُ بالشيء لذاته، لا لمَكسب يترتَّب على القيام به، أو لمَردود يُنتَظر مِن أدائه؛ ففي المَشغُوف به وحده؛ تكمُن القيمة. ثمَّة مُتعةٌ صافية، نقيَّة مِن الشوائب، يرتشفها مَن احتفظ لنفسه بمساحةٍ حرة، وأودعها شغفًا عظيمًا، وصانه مِن الإرهاق، وجَنَّبَه قتامةَ الحساباتِ والتعقيدات.
***
ربما يُلامُ المَرءُ على إظهار شَغَفِه، وقد يتعرَّض للتهوين مِن شأنه؛ فثمَّة مَن يرى علاماتِ الاتزان في الحدِّ مِن الانفعال، ومِن أيّ ارتباط؛ أفإذا اكتملَ النُضجُ واستوى؛ انقضى الشَغَفُ بصوَرِه كافة، وتوارى خلفَ ستار الحِكمة؟ عرفت فيما مضى كبارًا مُغرَمين بأفلام الرسوم المُتحركة؛ يتخذون مِن الأحفاد عذرًا لمشاهدتها، وآخرين بأنواعٍ مِن الحلوى؛ يقتطعون وقتًا لصنعها، ويتفنَّنون رغم مَشاغلهم وأعبائهم في إخراجها. كان أكثرُهم يخجل مِن إعلان شَغَفِه إلا للأقربين، وقليلُهم يصرح به دون أن يتخلّى عنه؛ فما الحال الآن؟ ***
أغلبنا يصحو ويأكل ويعمل وينام، ولا يدري أين يَبُثُّ شَغَفَه. أغلبُنا يتحرك في آليةٍ ويؤدي ما عليه مِن واجباتٍ ومَهام، دون أن يملِكَ الحمَاسةَ تجاه أي مِنها. أغلبنا يقاوم أسبابَ اليأسِ والإحباط، لكنها مُقاومةٌ لا تتجاوز غرضَ البقاءِ على قيدِ الحياة، مُقاومةٌ تتسرب خلالها الروح وينطفئ البريقُ، ويتلاشى كُلُّ ولعٍ. ربما لا تنمُّ هذه الحال عن مَرضٍ، ولا تُوصَف لها العقاقير. ربما لا يشكو مِنها أحدٌ، ولا ينتبه إليها الواقعون فيها.
***
الأسباب معروفة لكن إزالتها عسيرة؛ فواقعٌ مِن القسوةِ بما يُجرِّد المَرءَ مِن شروط آدميتِه، لا يدعَ في النفسِ براحًا لشَغَفٍ أو استمتاع، الشاغفُ والمَشغُوف صارا في كربٍ والكربُ مَصنوع باقتدار، تلزم لكسحه أعتى الأعاصير.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات