في حركة بدت سلسة بسيطة لمن لم تضطره الأقدار يومًا إلى تجربتها؛ أخرج الرجل ساقه اليمنى من الباب المفتوح وأدناها من الأرض ثم قفز محاذيا الأتوبيس، وهرول بجانبه قليلًا حتى هدأت خطوته وعادت لإيقاع المشية العادية المتراخية، فانحرف يمينًا مودعًا نهر الطريق مُستكملًا مسيرته. تتطلب مغادرة الأوتوبيس تدريبًا معقدًا وشاقًا؛ فالنزلة الناجحة بهلوانية الطابع، والأسئلة المهمة التي تتعلق بحسن أدائها تتلخص فيما يلي: بالوجه أم بالظهر أم بالجانب؟ أي ساق تسبق الأخرى أم أنهما تترافقان؟ ومتى تترك اليد المسندَ الذي تقبض عليه خشية الإفلات المبكر؟ الإجابات التي تستوفي الأسئلة بدقة تقي صاحبها شرَّ الإخفاق، وتمكنه من الوصول إلى البر بسلام.
• • •
شاء الحظ أن أشهد أكثر من شخصٍ يفشل في محاولته فيسقط سقطة مروعة، ويلتف حوله المارة، يساعدونه على التماسك والوقوف من جديد إن لم تكن به إصابة بالغة. الخطأ ها هنا له ثمن فادح، يتضاعف ما هشت العظام ووهن الجسد وضعف الاتزان.
• • •
النزلة في معاجم اللغة العربية هي المرة الواحدة من الفعل نزل أي هَبط، والأرضُ النزلة هي ذات الخصب والنماء، والنزل هو مكان يقيم فيه الغرباءُ مُقابل أجر مثله مثل الفندق، أما المنزل فمَقام المرءِ الدائم وعنوانه ومُستقرُّه، وإذا ذكرت النازلة فالقصد مصيبة شديدة حلَّت بالناس.
• • •
إذا قيل نزل فلان عن إرادته فالمعنى أنه تراجع عما انتوى، أما إذا نزل على رغبة فلان فالمعنى أنه أطاعها ولباها، وإذا تأفف واحد من ملاحقة آخر له في الطلعة والنزلة؛ فكناية عن إلحاح متواصل وتتبع لا يتوقف، حتى ليستثير الزهق، ويدفع إلى الضيق، بل وربما يحفز الغضب.
• • •
لا تذكر الأمكنة ذات القصص والحكايات القديمة إلا واحتلت نزلة السمان منها موقعًا. هي منطقة شهيرة تقع في محيط الهرم، سميت باسمها هذا كون أهلها عاشوا فوق هضبة، تتراكم أسفلها مياه الأمطار فتصنع بركة، والبركة موضع جذب؛ تحطُّ فيها طيور السمّان وتتكاثر، وربما كان وجودها سببًا في أن يُعرف المكان بالقنص والرماية.
• • •
كانت نزلة البرد تعبيرًا مألوفًا لا قيمة له، ثم صارت قولًا مخيفًا مع انتشار الفيروس الذي أقعد الملايين في بيوتهم وقطع الصلات بينهم؛ ولم تلبث أن تراجعت خطوات وارتدت على يد الساخرين ثوب الهزل وتحولت إلى مثار تنكيت، وفقدت الهيبة التي اكتسبتها على مدار عامين تقريبًا.
• • •
نزلةٌ أخرى جرت العادة أن تُزلزِلَ قلوبَ الأمهات؛ إذ تهجم على أمعاءِ الرضع ومصارينهم؛ فتجنُّ حركتها وتتقلص وتتلوى، وتطرد بلا تمييز ما يصلها من سوائلٍ وطعام. قضت النزلة المعوية في زمن مضى على حياة مواليد كثر، ثم صُنِعَت العلاجاتُ وبُثَّت الإعلاناتُ التي ترفع الوعي، وزارت القديرة الراحلة كريمة مختار كلَّ بيت؛ تطلُّ على أفراده من الشاشة، لتنصح وتحذر وتقدم الحلَّ في عبارة بسيطة حفظتها أجيال كاملة وراحت تردّدها وراءها: يجي له جفاف إدي له محلول.
• • •
الناس في المحافظات والأقاليم وفي الخارج أيضًا يقول أحدهم: نازل مصر؛ فيكون المعنى المفهوم بحكم الثقافة المشتركة، والمتواطأ عليه من الجميع هو السفر إلى القاهرة. أما تسمية القاهرة بمصر فأمر قديم إذ هي المركز الرئيس الذي تبدأ عنده الأشياء كلها وتنتهي؛ الفن والثقافة والتجارة والأعمال الإنشائية الكبرى والصحافة وأهلها ووسائل الإعلام بمقراتها وسطوتها والحكومة بوزاراتها وأبنيتها ومصالحها.
• • •
درجنا على اختزال مصر في القاهرة رغم ما للأقاليم والمحافظات الأخرى من ثروات هائلة وسمات شديدة الخصوصية، ولم نزل نفعل ونؤكد الفعل بالضد؛ فالواحد منا يقول أنه "طالع" إسكندرية أو أسوان أو الفيوم، والعجب أن يستخدم النزول مقرونًا بالأعلى شأنًا، بينما الطلوع لما عددناه أدنى وأقل.
• • •
على كل حال، فقدت العاصمة في الآونة الأخيرة ما لا يستهان به من رونقها الأصيل؛ تجردت من عراقتها، وأبدلت بثوبها الأنيق ما غلا ثمنه وتضاءلت قيمته، وربما خسرت من تاريخها ما يكرس استخدام الأفعال التي تراءت من قبل في غير موضعها.