مناقشة للاتفاق السعودي الإيراني - إبراهيم عوض - بوابة الشروق
السبت 21 ديسمبر 2024 7:46 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مناقشة للاتفاق السعودي الإيراني

نشر فى : السبت 18 مارس 2023 - 9:00 م | آخر تحديث : السبت 18 مارس 2023 - 9:00 م
منذ الإعلان يوم الجمعة العاشر من مارس فى العاصمة الصينية بيجين عن توصل كل من المملكة العربية السعودية وإيران إلى اتفاق على إعادة العلاقات الدبلوماسية بينهما بوساطة صينية، انهمرت المقالات فى الصحافة المصرية والعربية والدولية تعليقا عليه وإبداء بالتوقعات بشأن تنفيذه من عدمه، وآثاره على منطقة الخليج والشرق الأوسط، ومدلولاته بالنسبة لدور كل من الصين والولايات المتحدة فيها وفى مجمل النظام الدولى. هذا المقال ينضم لمناقشة الاتفاق مبدئيا بعدد من الملحوظات بشأن هذين المجالين، بادئا بالثانى منهما، ثم يضيف إليها مجالا ثالثا هو موقف المحللين والصحافة عموما من أطراف خصومة ما عندما تحتدم هذه الخصومة ثم بعد أن تنزوى.
• • •
اختلف المعلقون على الاتفاق فيما إذا كانت الولايات المتحدة علمت بالمفاوضات التى جرت فى بيجين أم لا. ذهب بعضهم إلى أنها كانت على علم بها، ولم تفاجأ بالاتفاق، ونوهوا بأنها رحبت به. أغلبية المعلقين، بما فيهم الأمريكيون منهم، اعتبروا، على خلاف ذلك، أن الولايات المتحدة فوجئت بالاتفاق سواء كان السعوديون قد أبلغوها به قبل الإعلان عنه أو لم يفعلوا.
وساطة الصين فى التوصل إلى الاتفاق عظيمة الأهمية بالنسبة للنظام الدولى ولمنطقة الشرق الأوسط. الرئيس أوباما كان قد اعتبر فى واحد من تصريحاته إبان فترة حكمه أن الصين قوة إقليمية، بمعنى أن مواردها المادية والرمزية تسمح لها بالتحرك فى إقليمها، وهو ربما قصد بهذا الإقليم شرق وجنوب شرق آسيا، ولكنها لا تمكنها من أن تمد تأثيرها ونفوذها إلى ما وراء هذا الإقليم. خطاب الصين ذاتها وحتى مطلع الألفية الثالثة كان فيه ما يبرر تقدير الرئيس أوباما فكان ممثلوها يصرون على أنها ما زالت بلدا فى طور النمو وأن أمامها ردحا من الزمن قبل أن تصبح بلدا متقدما، ناهينا عن أن تصير قوة عظمى.
فى العقد الثانى من القرن الجديد، أخذ خطاب الصين يتغير، وخاصة بوصول الرئيس تشى جين بينج إلى الحكم. احتياجها المستمر للمواد الأولية وللطاقة، قابلته الصين بتصور هائل الطموح لجوانب عملية فى تشغيل النظام الدولى تمثل فى مبادرة الحزام والطريق التى تشمل تنمية الطرق البرية والبحرية وتعزيز الترابط بينها وتدعيم البنية الأساسية التى تخدم هذا الترابط والتجارة الدولية فى آسيا وإفريقيا وأوروبا، ثم فى أمريكا الجنوبية. هذه المبادرة لا تصدر عمن لا يرى فى نفسه إلا قوة إقليمية. الخطاب الجديد لبيجين ينمّ عن ثقتها فى نفسها، وعن قبولها لأنها أصبحت قوة عظمى. صارت تتناول طريقة عمل النظام الدولى، وتسائل فى هيمنة الولايات المتحدة عليه. فى إبريل سنة 2022، صدرت عن الرئيس الصينى «مبادرة الأمن العالمى» التى اعتبرت الصين أنها تفتح طريقا جديدا نحو الأمن يقدم الحوار على المواجهة، والشراكة على التحالفات، طريقا يكسب فيه الجميع ولا يتبنون المعادلات الصفرية. آخر تعبيرات التطور المفاهيمى المجرد من النظام الدولى صدر عن الرئيس الصينى فى الأسبوع الماضى عندما أطلق، فى اجتماع رفيع المستوى للحزب الشيوعى الصينى بعدد من الأحزاب السياسية فى دول مختلفة، مبادرة الحضارة العالمية. قبل هاتين المبادرتين، كان الرئيس الصينى قد أطلق فى سبتمبر 2021 فى الجمعية العامة للأمم المتحدة مبادرة التنمية العالمية. هذه المبادرات، بما فيها من مبادئ تقترحها الصين لتحكم النظام العالمى، لا تصدر إلا عن بلد يرى نفسه قوة عالمية. هل رأيت بلدا متوسط القوة يصدر مثل هذه المبادرات أو يعلن عن مواقفه من المبادئ الحاكمة للنظام العالمى؟.
الوساطة الصينية بين السعودية وإيران يجدر النظر إليها على ضوء هذه الخلفية، وهى وساطة تواكبت مع مبادرة أخرى اتخذتها الصين هى تسجيل موقفها من الحرب الروسية الأوكرانية الذى شمل عدم رضاها عن استمرارها والمبادئ التى ينبغى أن تحكم تسويتها. الصين اتخذت قرارا بالتحرك على المسرح العالمى، وربما كان بينة على ذلك ما رشح من أن الرئيس الصينى هو الذى عرض على السعودية التوسط مع إيران أثناء القمة العربية الصينية المنعقدة فى الرياض فى ديسمبر الماضى، ثم عرض الشىء ذاته على الرئيس الإيرانى أثناء زيارته لبيجين فى الشهر الماضى. حتى سنوات قليلة جدا، كان المحللون متفقين على أن الصين لا تريد الاقتراب من الصراع فى سوريا ولا حتى بالانخراط فى إعادة بنائها بعد انتهاء العمليات العسكرية فيها، هى التى تتوفر لها الموارد المالية، لأنها تعتبر أنها لا تعرف الشرق الأوسط كما يعرفه الأمريكيون أو الروس أو الأوروبيون. انظر إلى المسافة التى قطعتها الصين خلال سنوات قليلة. صحيح أنه قد لا تنمو تحركات الصين فى المنطقة بوتيرة سريعة وهى بالفعل قد تنقصها معرفة وثيقة بها وبالشبكات السياسية فيها. غير أن الثابت أنها قد وضعت قدمها سياسيا فى الشرق الأوسط، وفى الخليج تحديدا. هذا علامة على تغير هائل فى النظام الشرق أوسطى وفى النظام الدولى الأشمل، سيتعزز إن أقدمت الصين على الوساطة بين روسيا وأوكرانيا، وخاصة إن نجحت فيها. هكذا تتعدد الخيارات أمام السعودية، بل وأمام كل الفاعلين فى قضايا الخليج والشرق الأوسط عموما. الشك قليل فى إيجابية ذلك.
• • •
رأيان على الأقل يتنازعان بشأن حظوظ الاتفاق فى التنفيذ وتخفيف التوتر فى الخليج والتوفيق بين الخصمين اللدودين. الرأى الأول يشكك فى هذه الحظوظ ويعتبر فرص فشل الاتفاق أكثر من فرص نجاحه لأن موضوعات الخلاف بين الطرفين عديدة. الاتفاق يمكن أن يصطدم بصخرة أى من هذه الموضوعات، من اليمن، إلى سوريا، إلى لبنان، وأن ينهار. الرأى الثانى إيجابى ومتفائل. هو لا ينكر الصعوبات أمام تنفيذ الاتفاق، ولكنه يعتبر فرص صموده أكثر من فرص انهياره، ويعده اختراقا هائلا سيرتب تنفيذه آثارا واسعة النطاق فى الخليج والشرق الأوسط. هذا المقال يتبنى الرأى الأخير.
أولا، بصرف النظر عن الصين، دوافع الطرفين إلى الاتفاق هى أفضل ما يكفل حظوظ تنفيذه. المملكة العربية السعودية أنهكتها الحرب فى اليمن وهى تريد أن تضع حدا لها لتركز على أهم ما يشغلها وهو التطور الاقتصادى والثقافى والاجتماعى الداخلى فيها. بوقف مساندتها لجماعة أنصار الله تستطيع إيران أن تتعاون مع السعودية فى إنهاء الحرب. فى المقابل، الجمهورية الإسلامية فى إيران منهكة هى الأخرى فهى تواجه احتجاجات شعبية فى الداخل، وتعانى ضيقا اقتصاديا شديد الوطأة نتيجة للعقوبات الأمريكية مفرطة الصرامة المفروضة عليها، ثم هى مهددة بأن ينشأ ضدها تحالف شرق أوسطى تدفع إسرائيل إليه دفعا بممالاءة من الولايات المتحدة. اتفاقها مع السعودية يجهض فكرة التحالف الشرق أوسطى المعادى لإيران والموجه لها. علاقات طبيعية بين السعودية وإيران ستجعل من شبه المستحيل أن تنضم دولة عربية لتحالف موجه ضد إيران. وقف مساندة جماعة أنصار الله الحوثيين ثمن تبدو الجمهورية الإسلامية مستعدة لتسديده مقابل إفشال التحالف ضدها. بإيجاز، فى الاتفاق تبادل للمصالح بين الطرفين هو الضامن لتنفيذه.
أما عن موضوعات الخلاف فإنها لا بدّ نوقشت فى بيجين. ليس معقولا أن تكون الأيام الخمسة التى استغرقتها اجتماعات بيجين قد أنفقت فى الاتفاق على فتح السفارات بعد شهرين، وعلى اجتماع وزيرى خارجية البلدين، وعلى احترام سلامة أراضى كل منهما وعدم التدخل فى شئونه الداخلية. منذ الإعلان عن الاتفاق وحتى الأيام الأخيرة، أُعلن، تباعا وإن لم يكن بشكل رسمى، عن أن السعودية وافقت على تخفيف الهجوم على الجمهورية الإسلامية الصادر عن محطة تلفزيون إيران الدولية، وهى محطة خاصة تبث من واشنطن وتتلقى تمويلا سعوديا. بعدها بأيام أُعلن عن أن إيران ستكف عن تزويد جماعة أنصار الله بالسلاح، ثم كان ما نسبته محطة تلفزيون أمريكية إلى وزير المالية السعودى عن أن بلاده تنظر فى استثمار رءوس أموال فى إيران، وهو التحدى السافر للعقوبات التى تفرضها الولايات المتحدة على المتعاملين معها. هذه الإعلانات المتتالية بيان على أن اجتماعات بيجين لم تكن بشأن الإجراءات فقط بل خاضت فى المضمون أيضا، وفى تنفيذ الاتفاق.
التفاهم على لبنان أو سوريا أكثر تعقيدا. فى اليمن طرف واحد فى النزاع يجب التأثير عليه وهو جماعة أنصار الله، أما فى لبنان وسوريا فالأطراف عديدة، داخلية وإقليمية ودولية تجعل الاتفاق معها وفيما بينها أكثر تعقيدا، وإن لم يكن مستحيلا فى الأزمة الحالة فى لبنان مثلا، وهى أزمة انتخاب رئيس للجمهورية. ولكن حتى إن صَعُبَ التفاهم سريعا فى لبنان فإن هذا لن يهدد الاتفاق الذى توصل له الطرفان. تهديد الاتفاق سيترتب فقط على عدم وفاء إيران بوعودها بشأن اليمن أو على انضمام السعودية إلى تحالف موجه ضد إيران. لأن وقف الحرب فى اليمن والحيلولة دون نشأة التحالف الشرق أوسطى على أهمية قصوى للطرفين، فإن صمود الاتفاق ذو حظوظ كبيرة.
• • •
تبقى كلمات أخيرة بشأن موقف الصحافة وكثير من المعلقين من إيران ومن الخلافات التى فرقت بينها وبين بعض الدول العربية، وهو موقف شبيه بالذى اتخذته نفس الصحافة وعين المعلقين، أو غيرهم، من قطر إبان الشقاق بينها وبين مجموعة الدول العربية الأربع فيما بين سنتى 2017 و2021. انخفض الهجوم المستمر على إيران والتنديد بخبث نواياها، كما كان أقذع الهجوم على قطر قد توقف بل وحلَّ محله أحيانا ما يشبه الثناء، خاصة بعد أن اعتبرت مصدرا للاستثمارات المطلوبة. ألم يكن من الأكرم التحلى بالموضوعية وانتقاد الدولتين حيث يصح انتقادهما، دون تجريح، مع النأى بالأقلام عن التهجم عليهما وعلى المسئولين فيهما بمناسبة وبدونها؟ لو حدث ذلك ما استرعى الانتباه الانتقال المفاجئ من حال إلى حال وما دعا إلى التعجب.
منطقتنا فى حاجة إلى الهدوء لتركز الأطراف الفاعلة فيها على حل مشكلاتها بعقول باردة وبحسن نية. الاتفاق السعودى الإيرانى بوساطة صينية يمكن أن يسهم إسهاما معتبرا فى تحقيق هذا الهدوء.
إبراهيم عوض أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة
التعليقات