لعل أهم التحديات التى تواجه ثورة 25 يناير هى سياسة الأرض المحترقة التى خلفها نظام مبارك. فليس سرا أن هناك مقولة كانت سائدة فى أعلى دوائر السلطة فى ظل نظام مبارك وهى مقولة «إحراق البديل»! إذ كانت هناك خطة ممنهجة لحرق البدائل طوال فترة حكمه، وفقا لقانون «النقود الرديئة تطرد النقود الجيدة».
كان حصاد هذه السياسة ندرة فى الكوادر الوطنية والفنية اللازمة لبناء مصر الجديدة فى أعقاب قيام الثورة. إذ إن أعدادا كبيرة من الكوادر الوطنية ذوى الخبرة قد تقاعدت. إذ جاءت الثورة متأخرة للاستفادة من كفاءتهم وقدراتهم. كما أن كثيرا من الكوادر الوطنية النزيهة تم إبعادها عن مراكز السلطة واتخاذ القرار، وتم تغليب العناصر الانتهازية التى تعانى من الضحالة الفكرية والفنية وضعف روح الانتماء الوطنى. هذا بالإضافة إلى طوفان الفساد الذى كان يسود البلاد الذى أدى إلى تلوث بعض العناصر النظيفة التى كان يمكن لها أن تفيد مسيرة البناء الوطنى فى ظل نظام ديمقراطى غير فاسد.
ولذا وجدت الثورة والمجلس الأعلى للقوات المسلحة أرضا محروقة لدى تسلم السلطة، فالكوادر الوطنية إما تلوثت أو هاجرت أو تقاعدت بحكم السن. ولولا التطورات التى أخرجت البلاد من حالة الركود السياسى بدءا من عام 2005، من خلال تحركات تيار الاستقلال للقضاة الذى أخرج كوكبة من القضاة الشرفاء الذين يدافعون عن استقلال القضاء واستقلال الوطن. وكذا الحركات الاحتجاجية الشبابية مثل: حركة 6 ابريل، وحركة شباب العدالة والحرية، وجماعة 9 مارس للدفاع عن استقلال الجامعات وغيرها من التنظيمات الشبابية والحقوقية، لكان الوضع أكثر بؤسا.
ولهذا تحتاج مصر إلى فترة إعادة تأهيل وإعادة تفريخ للكوادر الوطنية الجديدة التى سوف يناط بها البناء الجديد للدولة على أساس من الديمقراطية والعلم. وفى تقديرى أن جيل شباب يناير 2011، على اختلاف مشاربه، سوف يشكل نواة جديدة على غرار جيل الأربعينيات الذى نشأ فى مصر غداة الحرب العالمية الثانية وتخرج من بين أعطافه أعداد كبيرة من الكوادر المسلحة بالعلم والوطنية، ساهمت فى بناء مصر خلال حقب الخمسينيات والستينيات وحتى نهاية السبعينيات قبل أن تبدأ سياسات التجريف المنظم للكوادر الوطنية سواء فى الداخل عن طريق الإقصاء والإفساد، أو فى الخارج عن طريق الهجرة وتعقيم إمكانياتهم وطاقاتهم فى بلدان الخليج.
وقد نتج عن سياسة الأرض المحروقة، أنه عندما قامت الثورة لم يكن هناك ائتلاف أو جبهة سياسية منظمة لاستلام السلطة على غرار ما حدث فى بلدان عدة فى أمريكا اللاتينية أو الفلبين بعد سقوط ماركوس، حيث كان حصاد السنين فى فترة حكم مبارك هو القهر ومصادرة حق المواطنين والنشطاء فى تكوين أحزاب وحركات سياسية فاعلة مما نتج عنه شرذمة للقوى السياسية وعيشها حالة من الخندقة السياسية التى لا تسمح بالحوار والتآلف وتعبئة الجماهير استعدادا للحظة الثورة الحاسمة.
ومصداقا لما نقول، دعونا ننظر إلى ما آل إليه حال أهم مرافق الدولة لحظة سقوط حكم مبارك «الجامعة، البرلمان، القضاء» حيث ساد فيها ضعف الكفاءة وانعدام الاستقلال ونخر فيها الفساد، هذا ناهيك عن أوضاع وقيادات الصحافة «السلطة الرابعة» التى تدهورت أوضاعها على نحو لم يسبق له مثيل منذ بداية القرن العشرين.
ولهذا فإن المرحلة الحالية هى مرحلة رفع الأنقاض وتطهير المواقع القيادية من العناصر الانتهازية وعديمة الكفاءة القائمة على الشللية والمحسوبية، وتمهيد الطريق لبداية جديدة لإعادة بناء مرافق الدولة بعد الانتخابات التشريعية والرئاسية. وإننى لعلى ثقة أنه رغم ما يبدو على السطح من ضعف وندرة الكوادر فى جهاز الدولة، إلا أن عملية التحول الديمقراطى سوف تفتح الطريق أمام ظهور قيادات وكوادر جديدة كانت مضطهدة أو مستبعدة أو مطمورة.
وقد عاشت مصر حالة شبيهة فى أعقاب ثورة 1919. وقد تمخض عنها ظهور قيادات وكفاءات جديدة آثرت الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية طوال الفترة ما بين 1920 ـ 1950. ولعل مرور فترة إعادة البناء سوف تسمح لمصر أن تنطلق إلى مصاف الأمم المتقدمة فى ظل مناخ من العدالة والحرية والكرامة.