زَعَقَ سائقُ الأجرة مُخرِجًا رأسَه من نافذة سيارته: الصَبْر.. شوية صَبْر.. الدنيا ما طارتش. كان قد توقَّف إذ فجأة، مُقرِّرًا أن يغتنمَ الفرصة، وأن يلتقطَ الزبونةَ التي أشارت له مِن بُعد، دون أن يعبأ بكونه سائرًا في مُنتصف الميدان، وبأن الثواني التي استغرقها حتى قفزت الزبونة إلى المقعد الخلفيّ، وأغلقت الباب؛ كانت كفيلةً بتكديس المرور، وتعطيل الحركة، وخَلق بؤرةٍ مُحتَقِنةٍ من لا شيء.
لم يعتذر الرجلُ أو يطلب السماحَ مِمَن تكاثروا وراءه، بل بادلهم الزجرَ وبعضَ السباب، وراح يُعدِّد فضائلَ الصبر ومَيزاته. في المأثور الشعبيّ أن الصَبْر مفتاح الفرج، وفي المأثور الدينيّ: إن الله مع الصابرين.العبارتان شائعتا الاستخدام؛ مألوفتان على الألسنة، حاضرتان في الذاكرة ما ضاقت الحالُ وانعدمت الحِيل، يمكن رؤيتهما مُستقرتين على حوائط البيوت القديمة، ومَكاتب الموظفين؛ تحملهُما أُطر ثمينة أو مُتواضعة، على حَد سواء، وكثيرًا ما تزينان أجسامَ سيارات النقل والميكروباص.
***
غَنّى عددٌ لا بأس به من المطربين للصبر؛ امتدحوه، وتحسَّروا لغيابه، تمنُّوه ووصفوه علاجًا لأوجاع عِدة؛ وبحثوا عنه بين الصحراوات وفي البحار. تساءلَ عبد الحليم مِنين نجيب الصبر، وحذرت أم كلثوم مُؤكدةً أنَّ للصبر حدود.
مِن الحِكَم التي لا ينقضي أوانها: اصبُر على جار السوء؛ إلى آخر الكلمات التي تُقدم حَلَّين لا ثالث لهما في مُواجهة أزمة مُستفحِلة؛ فإما صبر طَويل الأجل، أو تَرك الأمر لتصاريف القدر التي يُؤمَل في إنصافِها.
***
مِن مُشتقات مُفردة الصَبْر، تظهر صِيغةَ المُبالغة: صَبَّار، أي شخصٌ كثير الصبر؛ يمارسه بلا كَلَل، لا يفرغ مَخزونُه، ولا يفقد أعصابَه. الصبَّار هو أيضًا اسم، وربما وصف، لنَبتة قوية؛ تحمل الكثير مِن الخشونة. لا تتمتع تلك النبتة برقَّة المَظهر، وبهاءِ الطَلَّة؛ على عكس نباتات أخرى مَكسية بالزهر، مُتألقة بالألوان، مع ذلك فلها مَيزات فريدة مِن نوعها؛ إذ لا يؤثر فيها شُحُّ المياه، ولا يقتلها جفافٌ أو جدب، هي صامدة، باقية، مُتسربِلة بأشواكِها، لا تشكو أو تتذمَّر، ولا تنال منها قسوة البيئة بسهولة؛ يخفُت بريقُ جيرانها، وتتبدل عليها المَواسمُ، وخضارها ثابتٌ وأوراقُها عفيّة.
***
صَبَرَ أيوب فوق ما يتصوَّر بشرٌ، صَبَرَ على المرض، ونَبْذ الأهلِ والأصحاب، وضياع العِزّ والمال، صَبَرَ واحتسب؛ فغدا صبره مَضربًا للأمثال، ونموذجًا يُنظَر له بعين التقدير والإكبار؛ لكن صَبْر أيوب كان على ما لا يملِك أمامه فعلًا آخر، وما لا حيلة له فيه.
في التراثِ الدينيّ، يُثابُ الصابرون؛ لكن الإثابة ليست أبدًا مُطلقة، فالصبر لا يُحَبَّذ في الأحوال جميعها، وثمَّة مَصائبٌ لا يجوز معها صَبْر وتَراخٍ وتواكلٌ، واكتفاءٌ بدعاء، بل يكون العملُ على الحدِّ مِن مَضارها؛ ضرورةً، ودفعها ومنع أذاها عن الناس؛ واجبًا لا يُمكن التنصُّل مِنه.
***
قد يطول الصَبر ويمتد؛ حتى ليبدو بلا نهاية، يصبر بعضُ الناس؛ وكأنَّ مِداد الصَبْر في أحشائهم لا ينضب، يصبرون مِن المهد إلى المَمات. لا شكَّ في وجود عوامل تُكرِّس اختيارَ الصَبْر، وتبرر تحمُّل المَكارِه؛ مِن ظُلم وأذى وغياب للعدل وشيوع للفساد. لا شكَّ في وجود ما يُفسر الصمتَ إزاء العدوان، والعزوفَ عن الرد. الحقُّ أن الأسبابَ كثيرةٌ، تختلف باختلافِ الزمان والمكان، يحكُمها السياقُ، ويُصوغُها الظرفُ العام؛ فمِن كسلٍ إلى عجزٍ إلى خوفٍ، إلى إنهاكٍ وضيقِ أفقٍ، إلى استسلامٍ تام.
***
الصَبور؛ صيغة مبالغة أخرى مِن الفِعل "صَبَرَ"، تأتي على وزن فَعول، مثلها مثل جَسور وهَصور. هذا الشعب في العادة صَبور، حَمول، شَكور؛ لكنه يتَّسم أيضًا بصِيغ مُبالغةٍ على النقيض؛ فإذا نَضُب مَعينُ صَبرِه؛ تعاظمت أشواكه وغلظت إرادته، ولم يحل شيءٌ بينه وبين كَشفِ الغُمَّة.