أخبرنا الله تعالى عن مناظرات عدة كان من أطرافها الجبابرة الغلاظ لكنها لم تنته بالقتل أو التنكيل بالمتناظرين. النمرود ملك بابل المتجبّر ناظر نبى الله إبراهيم عليه السلام قال أنا أحيى وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتى بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذى كفر.. سيدنا موسى عليه السلام ناظر فرعون ولما احتدم النقاش قال نبى الله أولو جئتك بشىء مبين، وانتهى السجال بتحدى يوم الزينة الذى لم يتعرض فيه موسى وهارون للقتل، رغم ما ختم به اليوم من حادث دموى بقتل السحرة والتمثيل بهم... شعيب ناظر قومه الذين قالوا له ما نفقه كثيرا مما تقول ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز، قال يا قوم أرهطى أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا...
حتى «سقراط» ناظر «بروتاجوراس» كبير السفسطائيين وانتصر عليه وحسمت المناظرة بفساد منطق السفسطة.. لكن مناظرة فى العصر الحديث كانت وبالا على أحد أطرافها رغم أنهم جميعا يدينون بدين واحد! ورغم أنها عقدت فى محراب علم ومعرض كتاب، ورغم أن شهيدها المغتال كان أحرص المتناظرين على كلمة سواء، وعلى تجنّب الشخصنة، وعلى أدب الحوار وذكر ما للطرف الآخر من مآثر ومحاسن، امتثالا لوصيته تعالى لموسى وهارون عليهما السلام: فقولا له قولا لينا!
***
منذ أيام عثرت على تسجيل ضعيف الجودة لمناظرة شهيرة، عرفت لاحقا بأنها كانت سببا فى اغتيال المفكر الدكتور فرج فودة الذى مازال حتى يومنا هذا هدفا لسهام التكفير. كان محور المناظرة التى استمرت قرابة الساعتين ونيف، والتى أدارها الأستاذ سمير سرحان على هامش معرض الكتاب عام ١٩٩٢ المفاضلة بين الدولة الدينية والدولة المدنية. وقد دُعى للمشاركة فيها فى جانب تأييد الدولة الدينية كل من: الشيخ محمد الغزالى والمستشار مأمون الهضيبى (مرشد جماعة الإخوان المسلمين آنذاك) والدكتور محمد عمارة المفكر الإسلامى. وفى جانب تأييد الدولة المدنية حضر كل من الدكتور فرج فودة، والدكتور محمد خلف الله الكاتبان والمفكران البارزين.
المناظرة ــ التى أذكر شيئا من ملابساتها طفلا ــ لم يتسن لى مشاهدتها والإنصات إلى حجج أطرافها إلا منذ أيام فقط. أول ما ساءنى فى مطلع الحدث، الجو المشحون الذى غصّت به القاعة الضيقة المعبأة بدخان السجائر، والكثير من الحناجر والهتافات الصاخبة، وكثير من هتاف التكبير والتحميد العظيم الذى صادره الإخوان وأساءوا إليه إذ رفعوه لافتة لنشاطهم وممارساتهم العنيفة عبر عقود. الجو العام ليس جو مناظرة فكرية ومباراة يتريض فيها العقل ويشحذ فيها التفكير، بل هو جو معركة يستعد أحد طرفيها للانقضاض والفتك بخصمه، ظنا منه بأنه جاء موكلا من فوق سبع سموات للدفاع عن دين الله! بينما السياق لا يحتمل، والغرض من التناظر فهم كيفية معالجة المسلمين لنظم الحكم والإدارة منذ البعثة وعبر العصور، وهل تلك المعالجة وحى من السماء أم اجتهاد بشر واختيارات يحكمها الواقع والخبرات.
الوجوم على وجوه أنصار الدولة الدينية كان يشف عن حالة من الغضب المكتوم، وكان بمثابة إشارة للحضور بأن يستعدوا للمعركة، وأن يطلقوا صيحاتهم وكأنها أبواق الحرب ضد أعداء الدين! كان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لا يرى إلا مبتسما، فهل كانت دولة الإسلام الأولى لتقوم بوجوه عابسة، ناهيك عن دول المتأخرين التى تراجع فيها الجانب الروحى بشكل كبير، وصدق أعز من قال: ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك... ولأننى لا أحب أن أنكأ جرحا قديما أو أوقظ فتنة نائمة، ولأننى لست من أهل الاختصاص فى مدار النقاش، فلن أدخل فى تفاصيل الحجج التى طرحتها المناظرة، بل سوف أكتفى باستعراض أجوائها والقراءة بين سطورها واستخلاص بعض الدروس.
أولا: بدا اختلاط المفاهيم على الجميع سببا ضروريا لوقف المناظرة أو تأجيلها، أو تدخل مديرها للتفسير، أو تقسيمها إلى حلقات بحيث لا ينتقل المتناظرون إلى الحلقة التالية إلا بعد حسم الخلاف حول مقصود الدولة الدينية والدولة المدنية. فكيف يراد لمناظرة أن تصل إلى نتيجة حول موضوع يفهمه الفريقان بشكل مختلف؟! بل ويختلف فى فهمه أعضاء الفريق الواحد كما لاحظت من الكلمات الافتتاحية؟!.
أحدهم يقول إن الدولة الدينية مقابلها هو الدولة اللادينية! وأن المقابل الوحيد للدولة المدنية هو الدولة العسكرية... أحدهم يؤكد أن الدولة الدينية يقصد بها تلك التى يسوسها حاكمها بالحق الإلهى المقدس.. لكن الملفت على الرغم من ضجيج القاعة وصياح الفريق المؤيد للدولة الدينية أن اتفاقا التأم حول مدنية الدولة التى أقامها المسلمون على اختلاف آلية اختيار رءوسها.. فالرسول (ص) كان يأتيه الوحى من السماء وعقدت له البيعة فى الأرض.. والخلفاء الراشدون تباينت أساليب توليتهم الحكم من السقيفة، إلى الاستخلاف المباشر، إلى الشورى فيما بين الستة، إلى البيعة الجزئية والمشروطة، ثم أعقب الفترة الراشدة الملك العضوض والحكم بالسيف وكثير من التوريث.
هذا الطابع المدنى والذى نشأ أولا فى مجتمع سمّى بالـ «مدينة» ليكون حجة ظاهرة ضد أى مفهوم آخر للدولة، لم يختلف عليه أقطاب المناظرة، بل بدا بوضوح أن الاختلاف قائم حول المرجعية الدينية فى التشريع والحكم، وأن فريقا يرى الدولة دينية مدنية والآخر يراها علمانية مدنية، هذا كفيل بتحويل دفة النقاش إلى حلقة يحسم فيها مفهوم العلمانى وحدود الدينى.. لكن انشغل البعض بالصياح والسخرية من الطرف العلمانى الذى تعمّد مرشد الإخوان أن يلمزه بسؤال: ألست مسلما (يقصد الدكتور فودة)؟! مستثيرا فى القاعة حس التطرف والتكفير، ثم يهاجمه الدكتور عمارة بطعن لا محل له فى النقاش مؤداه أنه يستقى معلوماته التاريخية من كتب ألف ليلة وليلة، منتهزا الفرصة طبعا للتعريض برأى الأدباء الرافضين حذف الرقيب الأخلاقى لنصوص وصفها بالفحش فى كتاب ألف ليلة!!
***
العلمانية التى أرادها الدكتور فرج فودة لا تعنى الكفر أو التنصل من الشريعة الإسلامية أو الحط من شأن الإسلام... على العكس تماما، فقد أفصح الرجل وسط سخرية مريضة من بعض الحضور، أنه إن يريد إلا أن يرقى بالإسلام فوق اختلافات البشر، وألا يجعله أيديولوچية سياسية قابلة للطعن والنقد والتشويه. لا تملك وأنت تنصت إليه إلا أن تصدقه، غير مفتش فى نواياه ابتغاء الانتصار إلى فكرة سطحية لتصنيف الناس إلى لونين أسود وأبيض.. يستريح الجاهل المحدود إلى هذا النوع من التصنيفات، فهو يحب الاستفتاء، يفضله على الانتخابات.. يختار بين ملاك وشيطان، بين إنس وجان، بين سماء وأرض.. العقل المحدود لا يميز درجات ألوان البشر والأفكار.
الدولة الدينية كما يقصدها مرشد الإخوان، وكما يستنبط من كلامه فضلا عن أفعاله، تعنى الوصاية وتقييد الحريات لصالح خط واحد يراه الزعيم الروحى هو الصواب! بينما مفهوم الدولة الدينية كما استعرضه بعض أعضاء فريقه لا يعدو أن يكون الدولة التى تستمد تشريعها من القرآن والسنة.. وهنا يعود مرشد الإخوان ليتفق على أن مصر بهذا المفهوم وبحكم مادة الدستور الثانية دولة دينية المرجعية، فأين الخلاف ولم التشنّج؟!
هذا يضيّق مدار المناظرة تارة أخرى، فلسنا بصدد فريق يريد أن يجعل الدين شيئا منبت الصلة عن الدولة وإدارتها وتشريعها، وفريق آخر يريد دولة كهنوت لا أساس لها فى الإسلام.. بل يمكن التقريب وتقليص مساحة الخلاف لتصبح البحث عن حدود تلك المرجعية، ونزع أى قداسة لأفكار وقيم وممارسات بشرية ناتجة عن اجتهاد لا وحى فيه. لكن النزاع انتقل وبلا مناسبة إلى التاريخ ومدى تمثيل فترة الحكم النبوى والخلافة الراشدة لروح الإسلام وجوهره، مقابل تاريخ آخر طويل من سفك الدماء على هامش الرغبة فى الاستئثار بالحكم والاستبداد بالسلطة، وهو موضوع آخر يصح أن تعقد له ندوات ومناظرات مستقلة.
النبرة الهادئة واللغة السليمة المهذبة للدكتور محمد أحمد خلف الله وهو يرد على نقد للدكتور الغزالى لم يكن فى محله ولا يخلو من تصيّد وتأول.. والابتسامة الوادعة والحديث العقلانى الذكى للدكتور فرج فودة وهو يرد على مناوشات غير لائقة وتحديات شخصية خلال المناظرة، كشفت عن خلق الإسلام بدرجة أكبر من الطرف المتشنج العابس.
التوظيف السياسى للمناظرة حدا بمرشد الإخوان أن يطلب الإفساح للجماعة للعمل بحرية، والاحتكام إلى الصندوق، الأمر الذى يكشف عن النية الحقيقية للمشاركة على المنصة، واعتلائها لتحقيق أهداف سياسية لا شأن لنصرة الدين بها. كعادة جماعة الإخوان فى استخدام قوالب محفوظة منها عبارة: «نحن نتقرب إلى الله بكذا» أكد الهضيبى أنه يتقرب إلى الله بأعمال التنظيم السرى، وهو التنظيم الذى كان سببا فى إشعال فتيل العنف والتطرّف الدموى حتى اليوم، ثم لا يفوته أن يطلب ساخرا من الدكتور فرج فودة أن يضع برنامجا للإخوان بوصفه مسلما كما تقدمت الإشارة! وبذكاء يرد الدكتور فودة فى مختتم اللقاء بأنه سعيد بهذا التكليف وسوف يعطى الإخوان برنامجا سياسيا، لكن القدر لم يمهله وحملات التهييج والإثارة ضده تسببت فى اغتياله بعد ستة أشهر فقط من المناظرة، وبفتوى جائرة من أحد المشايخ الهاربين أباح فيها إراقة دمه وهو الذى أعلن ولو بلسانه أنه مسلم يغار على الإسلام، وأن المناظرة انتهت لصالح مدنية الدولة وهذا صحيح! فأى طعنة للدين والدولة وجهها من ضاق علمه وكثر إنكاره؟!