الحياة فى شرنقة العنف - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 12:09 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الحياة فى شرنقة العنف

نشر فى : الأحد 18 يوليه 2010 - 10:08 ص | آخر تحديث : الأحد 18 يوليه 2010 - 10:08 ص
فى سوق العمل كثير من السيدات اللاتى تتحملن إعالة أسرهن، يختفى دور الرجل، وتصبح السيدة بمثابة الوتد الذى تقوم عليه الحياة، تخرج يوميا لتوفر احتياجات الأبناء، وتعود لتستكمل العمل بدارها دون راحة أو تكاسل.

فى الفترة الأخيرة جمعتنى المصادفة بسيدات عاملات، لا تشكو إحداهن شيئا بقدر ما تشكو مرارة العيش مع الزوج: صعوبة التفاهم، الشجار المستمر، الاعتداءات والتطاول، وأخيرا من فشل كل المحاولات المبذولة لتحسين المعاملة.

تنتمى الأغلبية الساحقة منهن إلى الفئات الاجتماعية الكادحة، أعمارهن متباينة لكنهن تشتركن جميعا فى هم واحد: التعاسة الزوجية الغامرة. تتعرض معظمهن إلى عنف جسدى فاضح ومهين، أما العنف المعنوى، فلا تفلت منه واحدة. الشتائم والكلمات الجارحة تمثل ركنا ثابتا فى حيواتهن.

لفتت نظرى سيدة خمسينية، لم أصادفها إلا ضاحكة، تملأ المكان الذى توجد فيه مرحا، تجعل من أى شاردة مثارا للهزل والهرج، حضورها المبهج يجذب الآخرين، لكن المدقق فى عينيها المتعبتين يرى شيئا داكنا خلف سعادتها الفائضة، ويلمح حزنا مخفيا ودموعا مُحتَجَزَة بمهارة.

حادثتها فعرفت أنها تخرج لتنظيف المنازل يوميا، يجلس زوجها على المقهى القريب دون عمل، تعود مساء فيطالبها بالنقود دون كلمة أخرى، ثم يلاحقها بالسباب لأنها لم تعطه ما يكفى مصروفاته: حساب المشاريب وحق الدخان. يعاجلها بقبضتيه أمام الأبناء الأربعة ويصنع بوجهها دوائر زرقاء.

يعاقبها لأن الطعام لم يعجبه، أو لأنها لم تجد الوقت لغسيل ملابسه المتسخة. حين يمرض أحد الأبناء يتصل بها لدى مخدومتها كى تأخذه إلى الطبيب، وفى أحيان كثيرة يستولى على ما توفره للدروس والكتب والكراسات وينفقه على نفسه ثم يعاود ضربها لأنها لم تأت بالمزيد.

تمثل هذه المرأة نموذجا شائعا بين النساء العاملات، تنخرط الواحدة منهن فى مهن هامشية متعددة، وتتولى الإنفاق على متطلبات المعيشة بمفردها، أما الزوج المنسحب من كل المسئوليات، فيبعثر ما تجمعه ويضيف إلى كاهلها عبء التكيف مع التهديدات والصفعات.
بعد معاناة طويلة تصل إلى استنتاج واحد: أن شيئا لن يتغير فى نمط حياتها القاسى، فتكف عن محاولة التفاهم وتُغرِقُ نفسها فى الكدح.

وبرغم سوء الحال، فإنها ترفض الانفصال عن الزوج وتجد الكثير من الأسباب.

عملها المضنى يصبح ضرورة، والعنف الذى تلقاه يتضاعف وتزداد أسبابه ودوافعه، وتصب فى الاتجاه الخاطئ.

فى ضوء التغيرات الاقتصادية المتلاحقة، يجد الزوج نفسه أمام طوفان من الاحتياجات التى يفشل فى توفيرها، ويؤدى فشله المتكرر إلى شعور بالعجز والغضب والإحباط، وإلى استجابتين أساسيتين، أولاهما: العدوانية السلبية حيث الانسحاب التام من الموقف. وثانيهما: تفريغ الغضب فى الطرف الأضعف، الذى تمثله الزوجة. شيئا فشيئا تضطلع الزوجة بدور الزوج، ويستمرئ الزوج الحصول على احتياجاته دون بذل الجهد.

لا يكفى هذا التفسير لجعل الموقف مقبولا، فإذا كان هناك ما يدفع الزوج للانسحاب بينما يدفع الزوجة لخوض المعركة، فما الذى يجعل الزوجة ترضخ للأمر الواقع وتقوم بالإنفاق على زوج، ترى فى حياتها معه جحيما، لا تجد منه أية مساندة، وتتعرض إلى عنفه المتواصل بدلا من تقدير دورها؟ الحقيقة أن الاستسلام للعنف واختيار التعايش معه عن اللجوء للانفصال هو أمر يدعو إلى التفكير.

ربما ينشأ عن احتياج المرأة المستمر لاستيفاء الشكل الاجتماعى المقبول، فبينما يرحب المجتمع بالزوجة فإنه لايزال ينظر بكثير من الشك والريبة إلى المرأة المطلقة، حتى وإن كانت الأولى مقهورة ومستنزفة. هناك أيضا الخوف من اتخاذ مبادرة قد تقود إلى فشل جديد، فالعجز عن الاستمرار والشعور بعدم وجود غطاء نفسى فى حال الاستغناء عن الرجل، قد يؤدى بالمرأة للإحجام عن الانفصال، ربما هو شىء من التعود الذى قد يجعل المرء أسيرا لما اعتاده وعالقا فيه.

ترسخ بعض القيم الاجتماعية بقاء الأوضاع على ما هى عليه، فالزوجة قد تتشكك حيال حقها فى رفض عنف الزوج بسبب الأعراف التى تبيح له ضربها، أما الرضاء بالنصيب وعدم التطلع لتغييره، والخوف من المجهول، والتمسك بما صار معروفا ومجربا، فجميعها قيم وموروثات لازالت حاضرة.

لا يمكن إرجاع الرضوخ للعنف والتعايش معه إلى سبب وحيد، وأغلب الظن أن التغيرات الاجتماعية السريعة التى نشهدها سوف تقود إلى تدعيم قيمة المواجهة فى مقابل قيمة الاستسلام، بحيث يلتفت المقهور ليواجه قاهره، بدلا من أن ينحنى ليقهر الأضعف منه.
بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات