كل الأحلام الوردية التى استهدفتها الثورة السودانية فى ديسمبر 2019 لبناء دولة ديمقراطية حديثة، تبخرت فى الهواء، وأصبحت كالأشواك فى أيدى ملايين السودانيين الذين ظنوا أن مجرد سقوط نظام عمر البشير سيفتح أمامهم أبواب سودان جديد تسوده الحرية وتعم الرفاهية مختلف أرجائه وأطرافه المترامية.
لكن ما حدث طوال العامين الماضيين فاق تصورات أشد المتشائمين بمستقبل هذه الثورة المجيدة، حيث تفاقمت الأوضاع المعيشية بصورة لم يشهدها السودانيون من قبل، وشهدت أسعار السلع الأساسية ارتفاعات فلكية، فبلغ سعر الرغيف 50 جنيها بعد أن كان بجنيه واحد، واصبح ثمن جوال السكر زنة 50 كيلو 25 الف جنيه مع ندرة وجوده بالأسواق، وكذلك الأمر بالنسبة لمختلف السلع الغذائية والمحروقات، فى حين وصلت معدلات التضخم إلى أكثر من 370% خلال الأشهر القليلة الماضية، وسط اتهامات تطال رئيس الوزراء عبدالله حمدوك بأنه يتبنى أجندة أجنبية يراقبها صندوق النقد الدولى لفرض اجراءات اقتصادية قاسية على ملايين السودانيين، وأنه خضع لابتزاز جهات غربية لتبنى هذه الاجندة الاقتصادية علاوة على تطبيع العلاقات مع إسرائيل، مقابل اسقاط بعض الديون السودانية الخارجية، ورفع اسم السودان من القائمة الأمريكية للدول الراعية للارهاب.
ومع توقعات تنذر بكارثة اقتصادية، أصبحت الأوضاع السياسية أكثر بؤسا، واشتدت حدة الخلافات بين مختلف القوى السياسية، ووصلت إلى درجة تبادل الاتهامات العلنية فيما بينها بالانقلاب على الثورة وسرقة شعاراتها من أجل مصالح شخصية.
فعلى خلفية المحاولة الانقلابية الفاشلة فى سبتمبر الماضى، وصلت الخلافات بين المكون المدنى والعسكرى فى مجلس السيادة الحاكم فى البلاد إلى طريق مسدود، حيث فشلت كل المحاولات التى قام بها رئيس الوزراء عبدالله حمدوك لعقد اجتماع بينهما لتصفية خلافاتهما، فى حين تفاقمت الصراعات بين القوى المدنية، حيث انسحب حزبا الأمة والشيوعى وأعضاء من حركة الحرية والتغيير من «الحاضنة السياسية» التى تدعم مجلس السيادة، وسط اتهامات لمجلس السيادة بتخليه عن استحقاقات الثورة السودانية، فى حين يعتصم آلاف السودانيين بالخرطوم منذ السبت الماضى احتجاجا على ممارسات المكون المدنى فى المجلس والمطالبة بتشكيل حكومة جديدة، قرر مؤيدو «الحرية والتغيير» تنظيم مواكب جماهيرية مضادة الخميس المقبل فى استعراض لقوتهم السياسية، والتدليل على أنهم قادرون على فرض توجهاتهم على المشهد السياسى السودانى الراهن، وهو ما ينذر بـ«حرب شوارع» بين الطرفين وسط تردى الأوضاع الأمنية، وهو سيناريو يستبعده الكثيرون رغم مخاوفهم من أن تستغله بعض الأطراف السودانية لتحقيق أهدافها الخاصة، والانفراد بحكم البلاد.
ومع تفاقم كل هذه الخلافات السياسية، جاء غلق قبائل شرق السودان للطرق المؤدية للخرطوم وموانئ البحر الأحمر وعلى رأسها بورتسودان والبشائر، لتشعل الأوضاع فى البلاد بعد أن توقفت حركة التجارة الخارجية وتصدير النفط، واضطر تجار السودان لاستيراد المواد الضرورية من دول الجوار وبيعها بأسعار فلكية، فى حين هددت قيادت الإقليم بالانفصال عن السودان وإعلان دولتهم المستقلة ما لم تتحقق مطالبهم باسقاط حكومة حمدوك وتشكيل حكومة كفاءات، وتخصيص الخرطوم الموارد اللازمة لتنمية الإقليم الذى يعانى من الفقر المدقع وانتشار الامراض كالسل بسبب سوء التغذية ونقص المياه الصالحة للشرب، رغم الموارد الكبيرة التى يمتلكها وعلى رأسها مناجم الذهب التى لا يستفيد ابناؤه منها.
السودان الآن يقف على مفترق طرق، كل السيناريوهات مطروحة أمامه بدءا من انفصال أقاليمه المختلفة إلى عدة دويلات، مرورا باستمرار مسلسل تعاقب الانظمة المدنية والانقلابات العسكرية على حكمه، نهاية بوصوله إلى بر الأمان ونجاح قواه السياسية فى بناء مؤسسات قومية مستقرة لا تميز بين مختلف أقاليمه وعرقياته وصولا إلى بناء «الأمة السودانية»، وهو ما قاله لى الصادق المهدى رئيس الوزراء السودانى الراحل فى آخر حديث صحفى أجريته معه قبل عشرين عاما بأحد فنادق القاهرة.