عُقد فى بيروت ولمدة يومين 11 و12 نوفمبر ٢٠٢٢م مؤتمر تحت العنوان أعلاه، وقد شاركَت فيه قيادات دينية وثقافية واجتماعية وسياسية من معظم الدول العربية، وجاءت الأبحاث المُقَدمة من مثقفين وفلاسفة واجتماعيين وصحفيين، تحت عنوان: «مسيحيو الشرق تاريخ ووجود ومستقبل» وقد تم عقد ورش عمل تتضمن مناقشة المخاطر والحلول المطروحة، وكان من أهم ما طُرح من موضوعات فى هذا المؤتمر: «التواجد المسيحى العربى» و«القومية العربية التى تشمل جميع الأطياف» وقد تم التركيز على أن المسيحيين مواطنون أحرار ينتمون للأرض والشعب والتاريخ، وهناك حقيقة واضحة تتمثل فى التركيبة الاجتماعية الوطنية والقومية، ووجود دساتير فى مصر ولبنان والأردن والعراق.. إلخ، مُلخصها أن المسيحيين مواطنون لا ذميون أحرار، وهناك مبادئ مُتفق عليها ولها مرجعية دستورية تنص على المساواة والعدالة والحرية، ومعظم المسيحيين فى المنطقة وخاصة فى مصر يرفضون فكرة الحماية الدولية، وقد استقبل المؤتمر مداخلات عبر شبكة الإنترنت لمسئولين وشخصيات رسمية من الخارج، وتم عقد ورش عمل للوفود الممثلة من كل دولة تتضمن مناقشة المخاطر والحلول المطروحة والمطالب عبر ورقة مشتركة.. إلخ، وكان أهم ما طُرح من موضوعات فى ورش العمل: هل الوجود المسيحى العربى فاعل فى الوطن العربى أم مُهمش؟!، هل الكيان المسيحى العربى حُر فى لبنان ومصر والسودان؟ هل الكيان المسيحى الكلدانى حُر فى العراق؟!.. إلخ.
الخطورة هنا أن يكون الحضور المسيحى غير فعال، وعندما تَطلب أقلية مسيحية وطنية معونة من الخارج تكون هذه أولى الخطوات للانهيار والضياع، فبلا شك أن من يُدرك الرسالة المسيحية الأصيلة لم ولن يتحدث إطلاقًا عن أى نوع من العنف وحمل السلاح لصيانة الكيان، وأن النموذج الواضح فى المقاومة ضد الشر والعداء فى العالم هو نموذج شخص السيد المسيح بذاته وقيامه بتطهير الهيكل اليهودى، والذى كان قد حوله الكهنة إلى مركز لبيع وشراء الذبائح (حيوانية كانت أم طيورًا)، وقد صكوا نقودًا خاصة بالهيكل لا يتعاملوا إلا بها، والذى تطور مع الزمن فى الفكر المسيحى الغربى إلى بيع صكوك الغفران فى القرون الوسطى، ولم تتوقف هذه الصكوك عند الغفران للأحياء، لكنها امتدت إلى الغفران للأموات من خلال الأسرة أو الأصدقاء، لقد كان تطهير شخص المسيح للهيكل نموذجًا للقائد الدينى الحازم والقوى، والذى كانت قلب رسالته مقاومة الفساد الإنسانى، ولذلك صاح فى الجموع وهو يطرد باعة الذبائح من خراف وحمام ويَقلب موائد الصيارفة الذين يبدلون عُملات الحجاج من بلدان العالم إلى عُملة صكها الكهنة خاصة بالهيكل ولا يبيعون أو يشترون إلا بها مقتبسًا من التوراة: «بيتى بيت الصلاة يُدعى وأنتم جعلتموه مغارة لصوص»، وهنا كان على الجمع المحيط أن يُفرق بين الوجود والحضور، فقضية الوجود الدينى مسئولية ضخمة يجب أن يتحملها التابعون للأديان وذلك من خلال التفاعل الحر بدون ذوبان، لكن بعض التابعين للأديان اختاروا مجرد الحضور بدلًا من الوجود الفعال، مع أن الوجود الفعال سوف يُضيف للوطن الكثير من اتساع الأفق الإنسانى والتقارب الخَلاق وقبول الآخر والفهم والتفهم مما يجعل جسد الوطن من القوة بمكان.
• • •
لقد ذَكرنا أنه من العار المطالبة باستقلال أى كيان دينى مهما كان حجمه، فالطائفية والتقوقع على الذات أخطاء تاريخية فادحة، ولقد كانت هناك أكثر من محاولة فى مصر لإنشاء كيان مستقل؛ لكن الشعب المصرى رفضها جميعًا، والمطلوب هنا من مسيحيى الشرق الأوسط هو الاستقرار والحضور الخلاق الفاعل، وليكن المسيحيون وغيرهم من الأقليات الأخرى ــ إن وجدت ــ نموذجًا للعيش المشترك مع الوجود الوطنى الحر، وليسهم الجميع فى محاربة الفساد، وليكن الحضور المسيحى فاعلًا وفعالًا، والسؤال الآن: هل نجح المسيحيون العرب فى تحقيق أهدافهم فى الحياة والتطور والاندماج مع إخوتهم المسلمين كشعب واحد له أصل واحد وحياة ومستقبل مشترك؟!
من الملاحظ أن البعض له وجود بدون تفاعل حقيقى على الأرض، وهؤلاء يطالبون بالحماية، وهنا نعود إلى توجه السيد المسيح، ولنأخذ ما فعله ليعبر عن انتمائه لوطنه واندماجه مع شعبه وحبه لبيت الله فى ذلك الوقت ولوطنه، لقد دخل إلى الهيكل اليهودى الذى يتعبد فيه الناس لله فوجده سُوقًا مُزدحمًا بالباعة، فصنع سوطًا من حبال وطرد الذين يتاجرون فى الهيكل من باعة الحيوانات والطيور التى تُستخدم لتقديم الذبائح وتجار العملة.. إلخ، صارخًا فى وجوههم بنص الآية من التوراة «بيتى بيت الصلاة يُدعى لجميع الأمم وأنتم جعلتموه مغارة لصوص» مُحققًا للنبوة القديمة: «غَيرة بيتك أكلتنى».
وهنا نتعلم لأنفسنا ــ عزيزى القارئ/ عزيزتى القارئة ــ من هذا الموقف الفارق بين الوجود والحضور، فقد كان يمكن للسيد المسيح أن يكون موجودًا فى الهيكل ويتعبد مع المتعبدين ويَنصح الأفراد، لكنه حَول وجوده إلى حضور فعال لتصحيح خطأ لصالح الجماعة.
وهكذا نرى أن قضية الوجود المسيحى فى الشرق هى مسئولية أساسها تفاعل المواطنين والمواطنات جميعًا من جميع الأطياف الدينية والمذهبية دون ذوبان للهوية الذاتية، فالمسيحيون ليسوا طائفة تطالب باستقلالها فتتقوقع على نفسها، لكن هم كأفراد وجماعات جزء لا يتجزأ من جسد الوطن الحى، لذلك عليهم أن يُقيموا حوارًا حول قضية «الموقف من الوطن» رغم الفروق الثقافية أو العلمية أو الدينية.
• • •
باختصار شديد نقول: على المسيحيين جميعًا دون استثناء أن يُمارسوا الحضور الفعال ليصبحوا نموذجًا للعيش المشترك مع الوجود الحر ليشاركوا مع إخوتهم فى الوطن محاربة الفساد وعدم التقوقع على الذات ليصنعوا مستقبلًا للأجيال القادمة، لأولادهم وأحفادهم وطنًا يستحقونه يعيشون فيه ويستمتعون به، وهذا ليس بغريب علينا، فهناك أمثلة ونماذج وطنية كثيرة أصبحت علامات للوطن على طريق محاربة الفساد وعدم التقوقع على الذات مع ممارسة العيش المشترك والحضور الفعال نظير د. فاروق الباز عالم الجيولوجيا الشهير والسير مجدى يعقوب طبيب القلب الأشهر داخل مصر وخارجها مؤسس المركز الطبى فى أسوان لعلاج أمراض القلب، وقد كان من الممكن جدًا أن يظل بالمملكة المتحدة (بريطانيا) ويلقى هناك كل الاحترام اللائق به، لكنه أراد أن يخدم بلاده الحبيبة مصر فعاد إليها حالمًا أن يصل بخدمته الجليلة هذه إلى كل من يعانى أمراض القلب فى مصر خاصة الفقراء منهم وبهذا يكون قد تفاعل تفاعلًا حقيقيًا مع وطنه وأصبح حضوره فعالًا داخل الوطن كنموذج للعيش المشترك الحر. كما أيضًا د. بطرس غالى الذى كان أستاذًا للقانون الدولى والعلاقات الدولية بجامعة القاهرة فى الفترة ما بين ١٩٤٩ و١٩٧٧م، كما شغل منصب وزير الخارجية من عام ١٩٧٧م حتى أوائل ١٩٩١م حين انتخب كأمين عام للأمم المتحدة وهو أول مصرى عربى يشغل هذا المنصب.