البحث عن العدل الضائع - داليا شمس - بوابة الشروق
الإثنين 25 نوفمبر 2024 1:42 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

البحث عن العدل الضائع

نشر فى : السبت 18 نوفمبر 2023 - 6:55 م | آخر تحديث : السبت 18 نوفمبر 2023 - 6:55 م
ذهبنا ومجموعة من المشاركين فى جولة نظمتها مبادرة «الأثر لنا» الأسبوع الماضى لاكتشاف مواقع تصوير فيلم «اللص والكلاب» بحى الخليفة. اقتفينا أثر سعيد مهران خلال رحلة هروبه بدءا من مدرسة السلطان محمود بشارع بورسعيد وصولا إلى جامع أحمد بن طولون وسكة «بير الوطاويط». اصطحبتنا المرشدة السياحية المتميزة مايسة مصطفى التى حصلت على درجة الدكتوراه قبل فترة حول علاقة السينما بالتراث الثقافى المادى والأماكن التاريخية.
سبقت الجولة محاضرة ألقتها مايسة فى مقر «الأثر لنا» بجوار سبيل أم عباس، حيث سلطت الضوء على حكاية سعيد مهران وشخصية اللص الحقيقية التى أوحت لنجيب محفوظ بكتابة ونشر الرواية سنة 1961، أى بعد عام واحد من القبض على من أطلق الإعلام عليه «سفاح القرن العشرين» ــ محمود أمين سليمان ــ المتهم بثمانية وخمسين جريمة بين قتل وسرقة، والذى حير أجهزة الأمن لمدة أربعة أشهر كاملة بسبب ذكائه وثقافته وقدرته الهائلة على التنكر. تحول العمل الأدبى إلى فيلم من إخراج الرائع كمال الشيخ بعد صدور الرواية بعام واحد أيضا، وذلك على الأغلب لاهتمام الناس الشديد بشخصية «السفاح» الذى تابعت الصحف أخباره وقتها بشكل يومى وصنعت منه أسطورة، فصوروه تارة بأنه أرسين لوبين أو روبين هود يسرق من الأغنياء ليعطى الفقراء، وركزت على مغامراته أحيانا دون التحقق من البلاغات المقدمة ضده، مما ساهم فى انتشار الكثير من الحكايات عنه لا نعرف إلى الآن مدى صحتها أو دقتها.
• • •
ذكرت الأهرام مثلا على سبيل المثال لا الحصر أن الشرطة أردته قتيلا بسبع عشرة رصاصة فى مغارة بحلوان، فى حين حددت جريدة «المساء» أنه هو من قام بالانتحار بطلقات من مسدسه. اهتدت الشرطة إلى شاحنة كان يقودها خلال المطاردات وترك فيها ملابس التنكر، ثم ساهمت الكلاب فى اقتفاء أثره والعثور عليه مختبئا فى إحدى مغارات جبل حلوان يوم 10 إبريل 1960، احتشد حول المغارة عشرة آلاف شخص، نصفهم من الشرطة ونصفهم من الجمهور لمشاهدة مصرع السفاح الذى تعاطف معه الكثيرون أو أثار شغفهم، وتم دفنه فى مقابر الصدقة بمنطقة زينهم. وجدت الشرطة حين داهمت آخر شقة سكن فيها خطابا موجها لمحمد حسنين هيكل، رئيس تحرير الأهرام آنذاك، كتبه فى كراسة مدرسية، طالبا إلى الصحفى الكبير أن ينشر سيرته الذاتية فى الجريدة على حلقات، مقترحا عليه العنوان التالى «محمود أمين يتكلم بعد صمت ويخص الأهرام بهذه الرسالة»، شارحا دوافعه للانتقام بأسلوب روائى لم يخل من أخطاء لغوية وأسباب غضبه من المجتمع الظالم. نفى عن نفسه أن يكون سفاحا، بل هو ضحية لخيانة زوجته وكل من حوله، موضحا أن عمليات القتل التى ارتكبها كانت بطريق الخطأ أو بسبب الظروف وملابسات الموقف الذى وقع فيه. نشر هيكل بالفعل الرسالة على الصفحة الأولى للجريدة، لكن الأهرام اكتشفت بعد ذلك أن جزءا من رسائله المجمعة عبارة عن نص مسروق من كتاب «أم النبى» للأديبة عائشة عبدالرحمن، الملقبة ببنت الشاطئ، خاصة الفقرات التى يصف فيها زوجته نوال، وعلقت الأهرام «لص حتى فى الكتابة».
• • •
لم أدهش أبدا من اهتمام نجيب محفوظ بالشخصية المعقدة للص محمود أمين سليمان، وهو الذى اعتنى كثيرا بالتركيبة النفسية للمجرم وحاول الغوص فيها وتحليلها من خلال العديد من أعماله الأدبية والسينمائية، فهو الذى كتب سيناريو أفلام مقتبسة من الواقع مثل «ريا وسكينة» (1953) عن القضية التى هزت مصر فى العشرينيات، و«الوحش» (1954) عن سفاح الصعيد الذى عرف بالخط، و«مجرم فى إجازة» (1958) الذى يحاول فيه محام أن يدرك ماهية الإجرام، وثلاثتهم من إخراج صلاح أبو سيف، وهو من شارك أيضا فى كتابة سيناريو «جعلونى مجرما» لعاطف سالم (1955). وفى مجموعة قصصية بعنوان «الجريمة»، صدرت فى مطلع السبعينيات، يغلب عليها الطابع البوليسى واللامعقول، قال: «كأنهم جميعا مجرمون أو ضحايا أو الاثنان معا».
كان محفوظ قد توقف عن الكتابة بعد الثلاثية ودخل فى حالة صمت أدبى انتقل بعده من الواقعية الاجتماعية للواقعية الرمزية، وبدأ نشر روايته الشهيرة «أولاد حارتنا» فى جريدة الأهرام عام 1959 وأثارت ضجة كبيرة أخرت صدورها فى كتاب لعدة سنوات. أراد أن يتحدث عن الطغيان والمقاومة وهشاشة الوجود والبحث عن العدل الضائع، لذا اعتبر النقاد «اللص والكلاب» امتدادا لرواية «أولاد حارتنا»، فهى قصة واحد من أبناء الحارة الباحث عن العدالة الذى لم يجد أمامه سوى الفتونة الفردية، بعد أن أحاط به «الكلاب» من كل جانب وأصر على الانتقام منهم. فى الواقع حاول الثأر من زوجته وعشيقها المحامى وصديق آخر، وفى الرواية شملت دائرة الانتقام زميله فى العصابة «عليش» الذى خانه مع امرأته واستولى على مكانه والصحفى الانتهازى «رءوف علوان» الذى أقنعه بأن سرقة الفقراء للأغنياء هى الغاية المنشودة لتحقيق العدل.
توجه إلى شيخه الصوفى الذى ساهم فى تنشئته فأعطاه إجابات فلسفية مجردة وعامة، واكتشف حقيقة مثقف السلطة الذى لا يسعى سوى لمصلحته، فكان الخلاص فرديا بمساعدة «العالم السفلى» من أبناء الحارة والمهمشين، وهو السؤال الأساسى الذى شغل نجيب محفوظ: هل الحل فردى؟ وهل يكمن فى مقاومة الحرافيش المتسلحين بأذرعهم؟ أخذنا المؤلف بحنكته المعهودة إلى هذه المنطقة بعد أن غير الكثير من تفاصيل الحكاية الحقيقية وأغفل أمورا تتعلق بأصول محمود سليمان الصعيدية وسفره إلى لبنان وتأسيسه لدار نشر ومخالطته لبعض المشاهير، ليصبح بطله سعيد مهران رمزا قد نسقط عليه أحداثا نعيشها حاليا، إذ تنطبق حالته على أفراد وشعوب تسعى لتحقيق العدل الضائع فى عالم ظالم، لسان حالهم ينطق بجملته فى الرواية: «لست أطمع بأكثر من أن أموت موتا له معنى».
• • •
أحكمت الأقدار إغلاق الحلقة التى كان يدور فيها: ظلم، خيانة، غدر، انتقام، إخفاق،... ما قاده إلى الاستسلام بلا مبالاة، فمحمود سليمان كان يتلذذ بتحدى عناصر الأمن ويبعث دائما برسائل للمجتمع مثلما فعل فى إحدى المرات حين استقل سيارة أجرة فى قلب حى محرم بيه بالإسكندرية حيث عاش لفترة، وفى الطريق أفصح للسائق عن هويته ثم أخرج خطابا من جيبه وكلفه بتوصيله إلى مفتش المباحث الجنائية، العقيد محمد البشبيشى، عتب فيه على الشرطة أنها تحمى من عذبوه وتسببوا فى مأساته، مؤكدا أنه مصر على قتلهم جميعا مهما كلفه الأمر. كان يعلم أنه ميت لا محالة، وأنه عندما تبحث عن الانتقام عليك أن تحفر قبرين أحدهما سيكون لك أنت.
التعليقات