أمريكا الطفل المدلل لـ«إسرائيل» - أحمد الدَبَشْ - بوابة الشروق
الجمعة 31 يناير 2025 12:15 ص القاهرة

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

أمريكا الطفل المدلل لـ«إسرائيل»

نشر فى : الأربعاء 18 ديسمبر 2019 - 12:15 م | آخر تحديث : الأربعاء 18 ديسمبر 2019 - 12:15 م

الأمريكيون ينظرون إلى إسرائيل على أنها شديدة الشبه بأمريكا. أمة مهاجرة، ودولة مهاجرين، وملاذ مضطهَدين ومظلومين، ومجتمع روَاد استيطان، بلد قوى، وشجاع، عازم على النضال فى صف الحق، ونظام ديمقراطى، تظلله سيادة القانون (الوحيد فى الشرق الأوسط)، وواحة ثقافة استهلاكية غربية، فى صحراء قاحلة، تحيط بها من كل جانب. فالروابط بالغة المتانة، إلى درجة أن إسرائيل ليست، بنظر عدد غير قليل من الأمريكيين، سوى ولاية حادية وخمسين.
(كلاريد برستوفتر، الدولة المارقة: الدفع الأحادى فى السياسة الخارجية الأمريكية).
يفسر غالبية المثقفين العرب، إجراءات ترامب الأخيرة ضد العرب وفلسطين، من خلال الفهم الخاطئ لطبيعة العلاقة بين أمريكا والكيان الصهيونى، حيث لا يزال كثير من مثقفينا ومفكرينا ومحللينا، يصرون على أن جماعات الضغط اليهودى فى أمريكا هى التى تُشكل وتُحدَد السياسة الأمريكية، وأن هذه الجماعات لها قدرة كبيرة على التأثير فى الانتخابات الأمريكية؛ ومن ثم تحديد سياسة الولايات المتحدة الأمريكية، فى اتجاه تحقيق التأييد والدعم للكيان الصهيونى.
تبنى هذه الدراسات تحليلاتها على التنظيم، والوسائل التى يلجأ إليها اللوبى الصهيونى، لممارسة ضغوطه على عملية صنع القرار الأمريكى، ولكنها تغفل الطريقة التى تتغلغل فيها المواقف الموالية للصهيونية فى الثقافة الأمريكية، لتجعل السياسة الأمريكية تتكيَّف مع المتطلبات الصهيونية.
بذلك يصبح الدعم الأمريكى السخى والمستمر لـ(إسرائيل) ــ كما يرى د. المسيرى ــ أمرا يتم على الرغم من إرادة الولايات المتحدة وضد رغبتها، وتصبح هذه القوة العظمى الباطشة مجرد ضحية للنفوذ اليهودى، وألعوبة فى يد الصهيونية التى لا تُقهر. وهو يُحسِّن صورتها أمام زبائنها العرب. ويضيف: من هنا «فالنظم العربية تستفيد من أسطورة اللوبى اليهودى والصهيونى؛ فهى تبرِر الهزيمة العربية، إذ تجعلها شيئا متوقعا».
***
إن تفسير اللوبى اليهودى، ومن ثم الانحياز الأمريكى لـ(إسرائيل) يجد أساسه فى «الثقافة الأمريكية، والتى توصف بأنها ثقافة يهو ــ مسيحية (JudeoChristian) تقوم على التقاليد الأخلاقية والدينية لليهودية والمسيحية ــ أى (التراث اليهودى المسيحى) ــ الأمر الذى تُرجم، فى النهاية، إلى معنى سياسى، هو توافق القيم الأمريكية و(الإسرائيلية)».
فقد كانت رحلة كولومبوس لاكتشاف الولايات المتحدة الأمريكية، هى الخطوة الأولى فى حرب صليبية، يستطيع بها ملك إسبانيا وكولومبوس «استعادة» الأراضى المقدسة، وإرجاعها إلى الدين المسيحى.
إن «اكتشاف أمريكا، قبل أى شىء آخر، كان نهاية حج عظيم، ونهاية للبحث الروحى العظيم».
الواقع أن لدى كولومبوس مشروعا أكثر تحديدا، فى تحقيق المجد للإنجيل فى العالم؛ فكولومبوس يطمح إلى تجهيز حملة صليبية، لتحرير القدس! وكل ما فى الأمر أن الفكرة تُعتبر سخيفة فى عصره، وبما أنه ــ من ناحية أخرى ــ لا يملك مالا، فإن أحدا ليس على استعداد للإصغاء إليه. فكيف يمكن لإنسان محروم من الموارد، ويرغب فى تجهيز حملة صليبية أن يحقق حلمه، فى القرن الخامس عشر؟
من هنا؛ لم تكن مغامرة كولومبوس إلا مغامرة دينية، ومُدخلا لاستعادة الأراضى المقدسة، والإعداد لإنشاء مملكة الإله، على جبل صهيون!
تماهى المستوطنون البريطانيون البروتستانتيون على الأرض الأمريكية ــ بالكامل ــ مع الإسرائيليين القدامى. فكانوا يتحدثون عن أنفسهم، بوصفهم «إسرائيل المسيحية»، ويصفون بريطانيا، التى خلفوها وراءهم، بـ«أرض مصر»، وينعتون الملك جيمس، الطارد لهم، بــ«الفرعون»، ويوازون المحيط الأطلسى، الذى عَبَروه، بـ«البحر الأحمر»، وأمريكا بــ«أرض كنعان الجديدة»، أو «أرض الميعاد».
***
لقد كانت «التوراة» مرجعهم المطلق، ومنه كانوا يستمدون رؤية الواقع، بشكل مشوَّه. فكان كل عضو منهم يرى أن الشعب الجديد هو «شعب الله المختار»، وتتم معاملته على هذا الأساس. وكل ما يحدث كان سببه الله أو الشيطان.
لإضفاء طابع دينى عريق، أعطى المهاجرون الأوائل أبناءهم أسماء عبرانية (إبراهيم، سارة... ألعازر... إلخ)، وأطلقوا على مستوطناتهم أسماء عبرانية (حبرون، وسالم، وكنعان... إلخ)، وفرضوا تعليم اللغة العبرية، فى مدارسهم وجامعاتهم.
لقد باتت أمريكا، بالنسبة للمهاجرين الجدد «النموذج الروحى للعهد القديم العبرى»، بل نجدهم يسمون أنفسهم «أطفال إسرائيل Children Of Israel».
هكذا، فإن نشأة أمريكا كانت نتيجة اندفاعة دينية، فقد كان خطاب المهاجرين يتألف من إسقاط قصص الكتاب المقدس على تجربتهم، ومن عالم الخيال الكتابى، استقوا إرثهم الأسطورى!
لقد شهد القرن التاسع عشر فى أمريكا عدة أحداث، وحركات دينية، جعلت فكرة «مدينة على جبل» (City Upon the Hill) إسرائيل الأمريكية ــ تتحوَل، جغرافيًّا، بالتدريج، لتصبح «مدينة على جبل» فى فلسطين، وفى القدس، على الأخص ــ فى «أرض الميعاد الكتابية». نتيجة الاتصال المباشر بـ«أرض الميعاد الكتابية» [فلسطين]، الذى كان عاملا قويا فى تحويل رؤيا «صهيون» هذه، من الجغرافيا الرمزية، إلى الجغرافيا المقدسة، من أمريكا «مدينة على جبل» (City Upon the Hill)، فى العالم الجديد، إلى مدينة القدس الجديدة على جبل صهيون، فى «أرض الميعاد». وبذلك، أصبح اليهود عنصرا مهما فى هذه الرؤيا، لأنهم أصحاب الحق فى هذه الأرض، مع احتفاظ أمريكا بدورها الحاسم فى تحقيق هذه الرؤيا.
إن تتبع سيرة الرؤساء الأمريكيين يكشف عن إيمانهم الصهيونى العميق، ودورهم الواضح فى إقامة الكيان الصهيونى، وأن دورهم لم يكن المعاون أو المساند، فأمريكا هى المالك الحقيقى للمشروع الصهيونى، وهى المتصرف فى أمره، كذلك. فقد كان واضحا منذ البداية أثر الرموز التوراتية على الرؤساء الأمريكيين. حيث أخذت تلك الرموز تهيمن على كل كبيرة، وصغيرة، فى الحياة الأمريكية: عُملتها، شعارها، خاتمها، أسماء مدنها... والأهم تفكيرها، وطبيعة مؤسسيها.
***
هكذا، فإن التراث اليهودى للمسيحية الأمريكية، كما يقول بول فندلى: «جعل الكثيرين من المسيحيين الأمريكيين يشعرون بأن إنشاء دولة (إسرائيل) عام 1948 جاء كتحصيل للنبوءات التوراتية، وأن الدولة (اليهودية) ستظل تلعب دورا مركزيا فى مخطط السماء، والأرض. وجاء انتصار (إسرائيل) العسكرى، فى حرب 1967، واحتلال القدس ليمثل عندهم تأكيد تنبؤات التوراة والخطوة قبل الأخيرة للمجىء الثانى للمسيح، إذ إن الخطوة الأخيرة إعادة بناء المعبد فوق قبَة الصخرة؛ ويستخلص فندلى أن التركيز على التراث التوراتى جعل كثيرين من المسيحيين الأمريكيين ينظرون إلى الشرق الأوسط والصراع الدائر فيه باعتباره انعكاسا للأحداث التى يصوِّرها العهد القديم، فإسرائيليو القرن العشرين يصبحون، فى أعينهم، (بنى إسرائيل) التوراة، والفلسطينيون يصبحون (الفيلستين)، الذين حارب بطلهم (جوليات) داود».
لفلسطين لدى الرؤساء الأمريكيين شأن آخر، كما يقول منير العُكش، فهى «ليست مجرد (استراتيجيا) أو اقتصاد، أو (مجال حيوى)، وبالتأكيد فهى ليست بسياسة خارجية إلا فى الإطار البيروقراطى. فطالما أن إنشاء أمريكا، وتاريخها، لم يكن إلا تأسيا بفكرة (إسرائيل) التاريخية، فالأمريكيون ورؤساؤهم ــ على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم ــ لا يتفقون على شىء، كاتفاقهم على المشروع الصهيونى، الذى يشربه الأمريكيون مع حليب أمهاتهم، ثقافيا، وتاريخيا، وتربويا، وإعلاميا، ودينيا، ومثلا أخلاقيا أعلى.
«ليس هناك من رئيس، أو إدارة، أو مؤسسة أمريكية حاكمة، تستطيع أن تتحدى هذه الثوابت. فلسطين ليست كوريا، أو فيتنام، أو أفغانستان، أو الفلبين. فلسطين هى الرحم الذى ولد منه الغرب اصطلاحا، ومفهوما حضاريا وجيوسياسيا، مقابل العالم العربى الإسلامى: فلسطين، والقدس، تحديدا، هى الشرارة التى أشعلت نار المواجهة، التى أججها الغرب على مدى السنوات الألف الماضية».
«لا يمكن فهم قضية فلسطين بمعزل عن المواجهة مع الغرب، الذى تجسِده اليوم، أمريكا، وقُفتها البريطانية. بدون فلسطين، والقدس، على وجه التحديد، لن يكون هناك غرب، وشرق. فباسم احتلال فلسطين [أرض كنعان] صنع البريطانيون أمريكا، وصاغوا فكرة أمريكا، وباسم هذه الاستعارة، خَلَقوا سكان قارتين كاملتين، وأبادوا ملايين البشر، فى البقعة التى تُسمى، اليوم، الولايات المتحدة الأمريكية، كما فعلوا ذلك فى أستراليا، ونيوزيلاندا، ومئات الجُزر التى استعمروها».

أحمد الدَبَشْ كاتِب وباحِث فلسطينى
التعليقات