عالِقُون - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 11:08 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عالِقُون

نشر فى : الجمعة 18 ديسمبر 2020 - 9:25 م | آخر تحديث : الجمعة 18 ديسمبر 2020 - 9:25 م

"عم محمود ما رضاش يخليني أتشعلق بجنيه". قالها الصبيُّ الذي لم يتجاوز الثانية عشرة من عمرِه، حاكيًا لأبيه كيف غادر المدرسةَ سيرًا على قدميه كعديدِ المرَّات، إلى أن التقى بمحضِ الصدفةِ جارًا؛ له نصيبٌ من الأملاك. أشفق الجارُ على حاله؛ فأركبه معه التوك توك حتى مدخل الحارة.
***
لم يُلق الصبيُّ حكايتَه وهو حزينٌ مُستاء، بل بقي ضاحكَ الوجه خفيفَ الظِل، يسرد تفاصيلَ يومِه وكأنه قضى نزهةً لطيفة. يقذف بواقعةٍ تلو أخرى في تلقائيةٍ، بلا ضغائن ولا أثقال؛ لا شيء في اعتقادِه يستحق أسفًا أو غضبًا أو إيماءة بكاء.
***
تبدو مُفردة "الشعلقة" مُشتقةً من الفعل "علق"، وفي هذا الصدد تذكر معاجمُ اللغةِ العربيةِ أن عَلَقَ بالشيء أي؛ نشبَ فيه، والعالقُ هو الفاعل، والصفة تُطلَق على الفريسة ما انحبست في الشِباك، وعلى الضحية ما انغرست فيها مخالبُ الضواري، وعلى كلّ ما لم يعد له مِن الموقف الذي اقتيد إليه فكاك.
***
العالقون كُثر، و"شعلقة" الأوتوبيس مشهدٌ شهيرٌ في شوارع المَحروسة، ملايين البشر عرفوا التدلّي على درجاتِ الحافلاتِ العامة في فترةٍ من حيواتِهم أو معظمها؛ البابُ مفتوح على مصراعيه كما جرت العادةُ، والراكبُ الذي لا يتمكَّن من حَشر جسمِه داخل المساحات المُكتظة، يتشبث بأي نتوءٍ تصل يده إليه، إحدى قدميه على درجةٍ من السلم والأخرى تائهةٌ وسط أقدام الجيران المُتلاصقين، أصابعه مُتقلِّصة على ما طالت كي تمنعَ السقوطَ، والمهارةُ الفذَّة التي تبهِر الغُرباءَ يكتسبُها مع التدريبِ والمُواظبةِ؛ المُضطرُّون.
***
في بعضِ الأحيان يكون لعمليةِ "الشعلقة" ثمنٌ أكبر مِن الجُنيه الذي لم يدفعه الصبيُّ؛ فسقطةٌ على الأرض وسطَ المركباتِ التي تمرقُ بلا تروي، وتسحقُ تحت عجلاتِها ما يعترضُ الطريقَ؛ قد تخلِفُ إصابةً لا شفاء منها، وقد ينتهي الأمر بمأساةٍ تجد طريقَها إلى صفحاتِ الجرائدِ ولا يبقى منها سوى الذكرى.
***
يقصد الولد مدرستَه بين الحينِ والحين، وكلَّما سنحت الظروفُ اقتنص توصيلةً؛ شبرًا خاليًا على دراجةِ زميل، عربةَ كارو تحمله إلى جانب تلالِ القمامة، مُؤخرةَ ميكروباص لا يُمانع صاحبه إبداء بادرة رحمة، ولا يزجُر الصبيةَ "المتشعلقين". يفضل الولد مرَّات أن يُصاحِبَ أباه ليتعلَّم منه الصنعةَ؛ فالمدرسة قد تكون مُهِمةً، والشهادةُ في بلدٍ اشتهر بأنه بلد الشهادات، علامةَ وجاهةٍ؛ لكن النقاشةَ مُستقبلٌ أكثرُ مَوضُوعِية بكل تأكيد؛ لا بحثٌ مُضنٍ عن وظيفة، ولا كهولةٌ تحِلُّ والمرءُ قيد الانتظار. يبدل الصبيُّ ملابسَه اللائقةَ بأخرى مُلطَّخة بألوانٍ مُتداخلة، يسأل عن كميةِ المعجون اللازمة والفترة التي يحتاجها لتمامِ الجفاف، يُخمن مِقدار الماءِ الذي تنبغي إضافتُه، ويُعاين الجُدران التي تساقطت منها أجزاءٌ ويستمع إلى أفضلِ الحلولِ لترميمِها، كما يقترح من وقتٍ إلى آخر ما يعنُّ له مِن أفكار.
***
العالقون كُثر. ثمَّة بشرٌ يقبعون في فخاخٍ ليست بمرئية؛ مُقيدين إلى اللحظةِ الراهنةِ بلا أفق، لا يتمكنون من مَد البصرِ على استقامتِه، ولا يستطيعون الخروجَ مِن الشِباك المَنصوبةِ حولَهم. ثمَّة مَن علقوا في عَطنِ القهرِ المُزمِن واستقر بهم الحال، ومَن علقوا في أوهامِ القوة المُطلقة؛ يرون في اكتمالها دوامًا.
***
الحقُّ أن "الشعلقة" فنٌ لا تنقصه إرادةٌ ولا يعوزه إقبالٌ وإصرار، فيما العالقُ على اختلافِ المواقفِ؛ فاتر العزم، منزوع الهِمَّة، مَجبول على الاستكانةِ ما استحكمت الحلقاتُ؛ بينما انفراجها في حركته وتلاشيها في صحوته.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات