هناك عقدة ذنب تلازم من نجا من حرب أو كارثة طبيعية كبيرة، فالناجى يتألم لحال الضحايا الذين رآهم يتساقطون. والحياة فى مصر بطبيعتها مثل الحرب أو الفاجعة المستمرة، تجعل البعض فى عقدة ذنب دائمة، خاصة من ينتمون للطبقات المتوسطة والعليا وسط أغلبية من الفقراء.
الحياة بمصر، ولا سيما بالقاهرة البائسة والتى يفترض بها أن تكون الأوفر حظا وسط المحافظات الأكثر بؤسا، كفيلة لأن تجعلنا نشعر بالخجل كل يوم، منذ الصباح، عندما يذهب أبنائنا لمدارسهم الخاصة ويدخلون الفصول لذات العشرين تلميذا فنتذكر ملايين الأطفال المتكدسين فى فصول يحتوى كل منها على مائة تلميذ أو أكثر. ثم عندما نتذمر من الأرصفة المتكسرة التى لا نستطيع أن نسير عليها، والقمامة والزحام واللانظام فى أحياء الطبقة المتوسطة، فنتذكر ملايين الذين يكافحون فى مئات العشوائيات الغارقة فى مياه المجارى وأكوام القمامة والعشش القبيحة. وتمتد عقدة الذنب حتى المساء، عند نتناول الطعام الشهى، ونتحفظ فى الاستمتاع به خوفا من زيادة الوزن التى قد تفسد رونق الأزياء الثمينة، ثم نتذكر أن حوالى نصف المصريين، خاصة النساء والأطفال، يعانون من سوء التغذية بسبب نقص البروتين لارتفاع أسعار اللحوم، حسب تقرير حكومى للمجالس القومية المتخصصة عام 2009 وتقارير برنامج الغذاء العالمى.
لكن الخجل غير المجدى يتفاقم من وقت لآخر مع حوادث مثل حادث قطار البدرشين التى أودت بتسع عشرة روح من المجندين الفقراء، ومن بعدها عقار المعمورة بالإسكندرية الذى قتل خمس مواطنين، ومن قبلهما قطار أسيوط الذى قتل عشرات الأطفال، وغيرها من الحوادث الشبيهة التى تؤكد حقيقة معروفة بالفعل، ألا وهى أن حياة الفقراء فى مصر لا قيمة لها. عندئذ تصبح حياتنا بحلوها ومرها فى حد ذاتها رفاهية تشعرنا بالخجل من الفقراء الذين يفقدون أبنائهم فى القطارات والأتوبيسات والعبارات والمراكب ــ وماتشات الكرة والمظاهرات.
•••
ولأن الخجل وحده لا يكفى، ولا يعوض المنكوبين والفقراء والكادحين، فقد تحول لطاقة إيجابية من خلال الثورة سواء فى أيامها الأولى أو بعد ذلك فى جولاتها العديدة من قبل المؤمنين بأنها مستمرة، الساعين للعدالة الاجتماعية مع العيش والحرية. يتهمهم أنصار الإستقرار بتعطيل «عجلة الإنتاج» وتعطيل الأرزاق، وهو ما قد يشعرهم بالخجل مرة أخرى، لكن أملهم فى أن تدور تلك العجلة على نحو يضمن للفقراء والكادحين أن يستمروا فى العمل لكن مع ضمان احترام إنسانيتهم: أن يعمل من يعمل ــ العامل والبائعة والشيال والتمرجى والممرضة والسائق والخادمة وصبى الميكانيكى ومجند الأمن المركزى وغيرهم ــ لكن مع الحصول على حد أدنى من الأجر يغنيهم عن السؤال، ومع توفير فرص تعليم حقيقية لأبنائهم، وضمان التأمين الصحى والاجتماعى والمواصلات العامة وكل ما يحفظ إنسانيتهم وكرامتهم على نفقة الحكومة التى تتحكم فى أموال دافعى الضرائب بدون الخضوع لمحاسبة ومساءلة مؤسسية حتى الآن. على الفقراء أن يستمروا فى العمل وعلينا جميعا حكاما ومحكومين أن نعمل لكننا سنستمر فى المطالبة بأن تمتنع الحكومة عن النظر للمطالبين بالعدالة الاجتماعية كما لو أنهم يطلبون فضلا وإحسانا وليس حقا أصيلا. وسط شعورنا بالخجل لا نملك إلا أن نسعى لاستمرار الثورة، حتى وإن كان مؤيدو الرئيس الحالى والسلطة التنفيذية التى يتحكم بها يؤكدون أنه وأنهم ثوريون يسعون لتحقيق أهداف الثورة أيضا ويطالبوننا بأن نمهل الرئيس والحكومة التى عينها فرصة؛ ولا نستطيع الوثوق فى ذلك طالما لم يبد الحكام أى أدلة على أن لديهم خطة ستصل بنا للعدالة الاجتماعية إن تركوا لتنفيذها، وكل المؤشرات تؤكد تخبطهم الشديد. والمشكلة ليست فقط فى قلة خبرتهم بل فى غياب أى مؤشر عن إيمانهم بأحقية الفقراء فى الحصول على حقوقهم من الدولة. إن كنا نرى من جماعة الإخوان التى ينتمى لها الرئيس مساعى هائلة فى مجال العمل الخيرى وتوزيع الصدقات، فذلك مع أهميته وكونه محمودا لا يصب فى اتجاه العدالة الاجتماعية التى تحفظ للكرامة لأن هبات الإخوان للفقراء ستجعلهم فى احتياج دائم لتلك الهبات ليبقى الإخوان هم أصحاب اليد العليا التى هى خير من اليد السفلى ــ أما العدالة الاجتماعية فالمقصود بها تكريس كون الحكومة التى هى خادمة الشعب ملتزمة بتوفير الحد الأدنى الذى يحفظ إنسانية جميع المواطنين.
•••
لا يملك أحدا أن يتحدث باسم كل مصرى منكوب، وهم كثيرون، لكن يصعب تجاهل الأرواح التى تضيع من منطلق تجنب المزايدة عليها، ويصعب على من هو ليس من المؤيدون الإخوان أو المؤمنين بهم أن يخدع نفسه بتشجيع الرئيس وحكومته على الاستمرار فى الفشل بحجة احتياجهم فى لفرصة. سيضطر الجميع للعودة لنمط حياتهم اليومية وسيحتفظ أهالى ضحايا القطار، ومعهم أهالى كل ضحايا الظلم فى مصر، سيحتفظون بحزنهم ــ أما الناجون فقد يعاودهم الخجل. ويبقى الأمل فى أن تستمر الثورة عسى أن تتحقق الكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية.
صحفية وكاتبة مصرية متخصصة فى تغطية
الشئون السياسية والاجتماعية بمصر