تشهد الساحة المصرية فى الأيام الأخيرة سجالا شديدا حول أغانى المهرجانات، وهو نوع من الأغانى الشعبية انطلق من مصر وانتشر خارجها. وقد اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعى واحتد النقاش بين من يدين صعود مغنين شباب سلالم الشهرة عن طريق الكلمات البسيطة وغير المقبولة فى نظر من ينتقدونهم، وبين المدافعين عن الفن بكل تجلياته بما فيها ما يراه البعض على أنه يفتقر للرقى.
***
تابعت السجال عن بعد، فأنا ومنذ سنوات لا أفهم تعريف الكثيرين لأى شيء على أنه مطابق أو منافى للذوق العام أو لأخلاق الطبقة الوسطى، وهما وصفان يتم اللجوء إليهما عند كل ظاهرة جديدة يعتبرها الملتزمون بالعادات المجتمعية دخيلة على أعرافهم.
***
أرى أنه من الصعب جدا تقبل أى ظاهرة تنافى السلوك أو المعتقدات التى أقرتها الثقافة المجتمعية، وأقف دوما حائرة أمام تشدد المحافظين (على الأعراف) تجاه ما هو غريب، خصوصا وأن احتوى على إيحاءات جنسية فى المقام الأول أو ما يمكن قراءته على أنه تشكيك بالدين. فجأة يتحول شخص يدعى الانفتاح أو على الأقل لا يبدو عليه عموما انغلاق الأفق إلى مدافع عن الأخلاق والأعراف والتقاليد وما إلى ذلك من مجموعة قواعد جلها غير مكتوب لكن يتوقع من جميع من يعيش فى مجتمع أن يحترمها ويلتزم بها. كما يتم تعريف الرقى الاجتماعى والتقاليد المجتمعية بشكل فضفاض يسعى للمحافظة على القواعد غير المكتوبة قبل كل شيء.
***
ما يستوقفنى هو الإصرار الشديد، فى حالة موسيقى المهرجانات الشعبية، على أن ثمة نوع من الفن أو الموسيقى الراقى وفن آخر هابط لا يجب تسميته بالفن أصلا، منعا لتلوث البيئة من حولنا بالأذى البصرى أو السمعى. أمشى فى شوارع تغطى أغلبها النفايات وأكاد أن أقع بسبب رصيف مكسور وأتفادى براز الكلاب فى أرقى شوارع العواصم العربية، حيث اشترى سكانها الكلاب لكنهم لم ينظفوا الأرصفة حين مشوا عليها مع حيوانتهم الأليفة، وأتساءل عن أخلاقيات لا يتوقف الناس بالإشارة إليها بينما يعيثون فسادا فى البيئة من حولهم.
***
أتذكر أيضا انبهار من يصرون على شطب أغانى المهرجانات بموسيقى الجاز واستماعهم إليها رغم أنها، وفى بداية مراحلها، كانت تمثل الطبقات الدنيا فى أمريكا بشكل شديد العنصرية، تماما كما مثلت أغانى الراب، والتى أصبح اليوم لها مرادف بكلمات عربية، الطبقات المسحوقة قبل أن تدخل على أنغام حفلات الطبقات الوسطى والعليا.
***
هناك مئات الأمثلة على أعمال موسيقية وفنية أحدثت صدمات فى مجتمعاتها، ليس فى العالم العربى فحسب إنما أيضا فى عوالم أخرى. وقد منع الدكتاتور الدموى هتلر، الذى أظن أن لا أحد ينفى أنه من أسوأ ما أنتجه التاريخ من البشر على الإطلاق، منع موسيقى الجاز فى ألمانيا أثناء حكمه. السينما الفرنسية أجبرت الرأى العام على تقبل العرى أو إغلاق العيون إن لم يرد المشاهد أن يرى أجزاء من أجساد على الشاشة (لا أظن أن أغلق الكثيرون أعينهم لكن ما علينا، ليس هذا موضوع النقاش).
***
موضوع النقاش فى نظرى، يتعلق بما تراه الأكثرية على أنه مناف للمزاج العام وضد ما هو متعارف عليه، وهو تصور الأكثرية لما هو صحيح أو خاطئ بغض النظر عن الحريات الشخصية، كحرية التعبير أو حرية المعتقد. لقد تجاوزت الدول الديمقراطية الكثير من السجالات هذه من خلال إعطاء الأولية للحقوق الفردية والشخصية لكن ضمن منظومة قانونية تحفظ أيضا حق المجموعة فى بيئة صحية ينمو فيها الفرد دون أن يأذى غيره.
***
المعادلة شديدة التعقيد، بين إبراز حرية التعبير واعتبار الحد منها هو حد من قدرة الفرد على الإبداع، وبين إرساء منظومة قانونية متكاملة تحول دون تحول المجتمع إلى غابة. أنا عن نفسى أؤمن بحرية التعبير المطلقة كعامل أساسى للإبداع. وأؤمن أيضا أن بإمكانى، على الصعيد الفردى، أن أحدد ما أريد أن أستمع إليه أو أراه وما لا أريد. لن أفرض على غيرى ما يستمعون إليه ويشاهدون، سوى ربما على أولادى بحكم ملاءمة بعض الفنون لعمرهم، ولن أوزع على مجموعات بأسرها نظارة عملاقة كتلك التى نأخذها فى السينما عند عرض أفلام ثلاثية الأبعاد، تفرض على لابسها رؤية معينة.
***
أظن أن لكل شخص مطلق الحرية برد فعله على أى تعبير إبداعى، أى أننى قد أكره أو أصدم من لوحة أو منحوتة وأنا حرة فى ذلك. لكنى لست حرة فى تحديد نوع ردة الفعل التى سوف يحدثها العمل نفسه فى غيرى أو أن أقرر ما إن كان غيرى سوف يشاهد العمل أم لا. هل أدافع عن الدين فأمنع ما أراه أنه ازدراء؟ بالنسبة لى الجواب هو لا. هل أدافع عن عادة مجتمعية فأناهض عمل مسرحى ينافيها؟ جوابى هو أيضا لا. سوف أتنقل بين الظواهر وأتساءل عن سبب ظهورها ثم أعيد التفكير ببعض قواعدى وأقرر إن كنت ما زلت مقتنعة بها أم أننى أريد أن أعدل منها. لكنى سوف أفعل ذلك بحكم أننى شخص يفكر ويأخذ قرارات، وليس لأن جهة ما منعت عنى الوصول إلى كتاب أو أغنية أو فيلم. ففى ذلك رعوية وفوقية لا أظن أننى أستطيع أن أحتملها، بعد تفكير عميق فى معنى الحقوق والحريات الفردية.
كاتبة سورية