تاريخٌ للبيع أو الإيجار - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 12:37 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تاريخٌ للبيع أو الإيجار

نشر فى : الجمعة 19 مارس 2021 - 10:25 م | آخر تحديث : الجمعة 19 مارس 2021 - 10:25 م

على مساحة تتجاوز الستين فدانًا تقع مستشفى من أكبر وأعرق المُنشآت التي تستقبل أصحابَ العِلل النفسيةِ؛ ما تعذَّر علاجُهم خارجها. وُلِدَت مُستشفى العباسيةِ في القرنِ التاسع عشر أي؛ إبان عصور الاحتلال البريطانيّ لمِصر، وقد سبقها بيمارستان قلاوون الذي أدى دورًا مشهودًا في الطب إلى أن أُهمِل قليلًا وتوارى.

***

أدار العباسيةَ في بداياتِها جون وارنوك؛ الطبيبُ الانجليزيّ الشهير، وهناك ملفاتٌ سليمة للآن تحمل توقيعَه، وقد تولاها من بعده أطباءٌ مِصريون، وقَّعوا في دفاترِها وعاشوا في مبانيها وكتبوا ملحوظاتِهم عن نزلائِها، وحاولوا بقدر ما استطاعوا تقديمَ العَون؛ فحتى النصف الثاني مِن القرن العشرين لم تكُن الأدويةُ الشافيةُ قد اكتُشِفَت بعد، أما عن الأجهزةِ والمُعدات التي مرَّت عليها عقود طويلةٌ، فلا تزال مَوجودةً تطلُّ على الزائرين مِن مَتحف زجاجيّ مَحفوظ، تؤرخ للمكانِ وتشهد على أهميته.

***

مرت السنون وتحوَّلت العباسيةُ إلى مَطمعٍ ذي بريقٍ خاص؛ إذ تحمل مِن عواملِ الجَذْبِ والإغراءِ ما يدفع كثيرين لمحاولةِ الاستفادةِ منها بصورةٍ أو أخرى؛ فالمساحةُ شاسعةٌ والمَوقع مُتفرد، والطريقُ الذي تشرِف عليه يُمثل شريانًا رئيسًا مِن شرايين العاصمة. القيمةُ الماديةُ ضخمةٌ؛ بل شديدة الضخامة، والعائد المُتوقَّع من استثمارِها هائل، والأدهى أن المدافعين عنها قلائلٌ والصامدين أمام محاولات الاعتداءِ عليها يتناقصون لأسباب مُتعددة؛ منها الهجرة شبه الجماعية التي باتت حلًا وحيدًا لأزمات الأطباء.

***

الهجماتُ على أرضِ العباسيةِ كثيرةٌ؛ تبدأ مِن أشجارِ المانجو التي يتم تجريدها مِن ثمارِها دوريًا، وتعبأتها في صناديق تخرجُ مِن البوابات تباعًا في غفلةٍ مِن المسئولين، مرورًا بأشجار الكافور التي تُبتَر جذوعُها غيلةً وتُنقَل لاستخدامها كأخشابٍ ليس إلا، وصولًا لانتزاع مساحاتٍ مِن الأرض وضمّها لأجهزةٍ ومؤسساتٍ في الدولة رغم أنها تنتمي ثبوتًا للمُستشفى، ولا يسلم الأمر مِن تعاقدات مُعلنة بعضَ الأحيان ومتوارية في أحيانٍ أخرى؛ منها مثلًا ما يسمح لشركاتِ المَحمول بغرسِ أبراجِ التقويةِ داخل أسوار المَكان، رغم ما لها مِن خُطورةٍ مُحتملةٍ على المرضى.

***

خلال الأسابيع الماضية، التقيت أصدقاءً يهتمون بالمُستشفى وبما تُمثله مِن قيمةٍ يعلمون يقينًا أهميةَ الحفاظِ عليها. دار الحديثُ حول مُقترحٍ جديد هو واحد في سلسلة اعتداءاتٍ مُتواليةٍ لا ينفرط عقدها أبدًا. ثمَّة نوايا خرجت إلى حيز الإعلان، تهدف إلى استقطاعِ مساحة تقدر بالآف الأمتار، وتأجيرها لإنشاء عيونٍ تجاريةٍ بطول سورِ المستشفى. قيل في مبررات الدفاع عن المُقترح المُفجِع؛ إن الهدفَ هو إدرار المالِ وإغداق الحوافزِ على العاملين بالمكان، والحقُّ أن محاولات مثل هذه جرت من قبل، ولم تؤت الغرضَ منها بل حقَّقت خسارةً مُزدوجةً؛ فلا عائد ماديّ لقيه العاملون ولا حماية للمكان مِن الإهانة والتهديد. بعيدًا عن حسابات المَكسبِ والخسارة، فإن مسئولية الإنفاق وتقرير المُكافآت والحوافز المُستحقَّة تقع على عاتق وزارة الصِحَّة التي تتبعها المستشفى، لم يُسمَع عن مُستشفى تابع لدولة ما، قد راح يؤجر أرضَه لمحلات، ويدخل في صفقات لا تمُت للطِبّ بصلةٍ، مُنحيًا دوره الأصيل، مُشككًا في اتزان المنظومة وسلامة رؤيتها.

***

لا يقف الأمر عند تعاقداتٍ وقتيةٍ وحقوقِ انتفاع؛ فكما فهمت من صديق له باع في القوانين؛ أن تغيير نشاط مكان مُخصص لغرضٍ مُحدد، يبيح فيما بعد رده إلى أملاك الدولة ما انتهت فترة التأجير، ومِن ثمّ لا تعود للمستشفى وصايةٌ على أرضِها، ويستمر تقليص مساحتِها إلى أن نفيقَ يومًا فنجدها قد استحالت أشبارًا لا فدادين.

***

 

 ربما يُفهَم أن تُستغلَّ مساحاتٌ خاويةٌ تحت الكباري الجديدة، وفي الساحاتِ العامة رغم ما لاختزالها مِن مضار، يُفهَم أن تُعطى بقيمة إيجارية عاليةٍ لسلاسلِ توكيلات ومطاعم ومقاهي يرتادها بعضُ الناس، أما أن تتعرَّض مستشفى بحجمِ ومَكانة العباسية إلى فعل مثيل؛ فعبث ما بعده عبث.

***

للتعامل مع المرضى النفسيين في مصر تاريخٌ قديم، طيبُ الذكر، ففي حين اتجه العالم الغربيّ منذ قرون لعزلِ هؤلاء المرضى وإبعادهم للهوامش والأطراف شبه مَنبوذين، كنا نتبع طريقًا تختلفُ تمام الاختلاف؛ فتسمح للمرضى بالوجود في مَصحَّات أُقيمت وسط العمران، في قلبِ المُجتمع لا خارجه، يراهم الناسُ ويعرفون بأحوالهم، لا تحوطهم صحراءٌ أو تضمُّهم سفائنٌ تطوف البحرَ ولا ترسو إلا لِمامًا. تطور العِلمُ وأثبت صحةُ ما اتبعنا مِن قرون، فصار إدماج المرضى لدى علماء الغرب، جزءًا مِن عملية المُداواة لا استغناء عنه.

***

لو نالت العباسيةُ ما تستحق مِن اهتمامٍ؛ لأقيمت فيها مراكزٌ بحثيةٌ على مستوى رفيع، ومكتباتٌ ثمينةٌ تضمُّ الرسائلَ العلميةَ والمراجعَ الكبرى وتحوي صورًا من الملفات القديمة التي انقضت فترةُ السريةِ عنها، وصار متاحًا التجولُ بين صفحاتها. في المكان إمكاناتٌ حقيقية يدعمها التاريخ، ويجعلها صرحًا فريدًا، ومعلمًا يحرص على زيارته العلماءُ والباحثون في حقلِ الطِبّ النفسيّ والمهتمون بالتاريخ؛ على مستوى المنطقةِ، بل على مستوى العالمِ أجمع.

***

قال لي الصديقُ في نهاية الحديث؛ إنه يخشى يومًا يأتي وقد عرضنا حجرةً مِن حجراتِ الهَرمِ الأكبرِ؛ ليستأجرها صاحبُ مقهى، أو توكيلٌ لعلامةٍ تجاريةٍ شهيرةٍ، صائحين بأن المُقابلَ مُغرٍ وأن صيانةَ الهرمِ ودفعِ رواتبِ القائمين عليه، تحتاج إلى تمويل.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات