رغم مظاهر الاحتفالات الشعبية الحاشدة التى شهدتها عدة مدن سودانية، السبت الماضى، ابتهاجا بتوقيع اتفاق الاعلان الدستورى بين المجلس العسكرى الانتقالى وقوى الحرية والتغيير «قحت»، يبدو المستقبل مشحونا بالغموض حول إمكانية وصول السودان ــ بعد مرحلة انتقالية من المقرر أن تستغرق 39 شهرا ــ بأمان إلى مرافئ الاستقرار والحرية والسلام، بعد رفض قوى سودانية مدنية وعسكرية هذا الاتفاق!.
الجبهة الثورية التى تضم العديد من الحركات المسلحة فى مناطق دارفور وكردفان والنيل الابيض أكدت رفضها القاطع للاتفاق، واتهم قياديون بها «قحت» باختطاف الثورة السودانية، حيث قال عبدالواحد نور رئيس حركة جيش تحرير السودان إن الاتفاق هو مجرد تحسين لشروط الديكتاتورية، وإن الحكومة المقبلة ستكون من وزراء عنصريين تختارهم «قحت» للحفاظ على الأوضاع القديمة وليس لبناء دولة المواطنة والمساواة، وهو ما أوضحه رئيس الجبهة منى أركو مناوى فى تصريحات صحفية بأن الاتفاق لا يحل أزمات المناطق المهمشة فى السودان، ولا يضع أى اعتبار لمأساة 6 ملايين نازح سودانى، وإن الذين يتسيدون المشهد السياسى الراهن من «قحت» لم يكن لهم دور فى إشعال الانتفاضة الشعبية التى اندلعت فى ديسمبر الماضى، وأن الكفاح المسلح ضد البشير هو الذى مهد الطريق لإسقاط نظامه.
أما الحركة الشعبية «فرع الشمال» فقد اتهمت «قحت» بالمساومة بمطالب جماهير الانتفاضة الشعبية من أجل الوصول للسلطة، مطالبة السودانيين بالاستمرار فى الثورة السلمية حتى تسليم السلطة إلى حكومة مدنية، فى حين قرر الحزب الشيوعى السودانى وقوفه فى صفوف المعارضة، وعدم مشاركته فى أى اتفاقيات بشأن ترتيبات السلطة الانتقالية.
أما القوى التقليدية وعلى رأسها حزبا الأمة والاتحادى والتى تفتت إلى عشرات الأحزاب والحركات، فإن مزاجها السياسى لن يتقبل بسهولة تهميشها عن مراكز صنع القرار، أو التهديد بتقليص نفوذها التاريخى العريق!.
وعلى العكس من هذه المواقف المعلنة، تتحدث مصادر سودانية عن قوى تنتمى لعناصر النظام القديم تعمل فى الظلام، منها «كتائب الظل» التى أعلن عنها نائب رئيس الجمهورية على عثمان محمد طه خلال حكم عمر البشير، والمسئول عن تنظيم المحاولة الفاشلة لاغتيال حسنى مبارك فى أديس أبابا، والتى قال إنها مدربة تدريبا عسكريا متقدما، والتى اتهمتها بعض الأصوات السودانية بأنها كانت تدبر لاغتيال أحد رؤساء الدول المشاركة فى حفل توقيع اتفاق الاعلان الدستورى.
فى نفس الوقت بدأت عناصر من النظام القديم تعيد تنظيم صفوفها بأعضاء جدد غير معروفين جماهيريا وأمنيا، لتشكيل أحزاب تشارك فى المرحلة الانتقالية، على أمل أن تأتى الفرصة مرة ثانية للقفز على السلطة مثلما فعل حزب الجبهة الإسلامية الذى دبر رئيسه د. حسن الترابى انقلاب 30 يونيو 89 بقيادة عمر البشير، ودخل السجن فى حملة الاعتقالات التى قام بها الانقلاب ورافقه فيها كل زعماء الاحزاب السودانية للتمويه حتى تستقر الأمور، وهو ما كان الترابى شخصيا يتفاخر به فى السنوات التالية خلال لقاءاته الصحفية والتليفزيونية!
السودان لا يزال فى مفترق طرق، الأوضاع السياسية مضطربة، والأزمات الاقتصادية مستحكمة، والمرحلة الانتقالية طويلة نسبيا وقد تشهد مفاجآت مدوية، والكثير من القوى الغربية لن تقف ساكنة إذا ما تعرضت مصالحها المالية والاحتكارية فى السودان للتهديد، كما أن هناك أطرافا إقليمية لن يسعدها إجراء تحولات جذرية فى تركيبة السلطة السودانية، وهى كلها عوامل قد تتلاقى مع قوى الظلام فى السودان لضرب أى إنجاز تحقق فى البلاد.
الشهور المقبلة سوف تحدد مدى قدرة الحكومة السودانية الجديدة على فك شفرات كل هذه العواصف التى تواجهها عبر مسارين لا ثالث لهما، إما أن تشرع فى بناء السودان الجديد، وإما أن تمهد الطريق لإعادة إنتاج النظام القديم!.