فى زمن الأزمات تشيع حالات من القلق، تحمل أصحابها على البحث عن أوعية لادخار أموالهم لا تأكلها معدلات التضخم، ولا تمحوها تقلبات الأسواق العنيفة. يتساءل الناس عن الذهب والعقارات وشهادات البنوك والودائع وأسهم البورصة.. والبعض يفضّل الاحتفاظ بالنقدية فى عملات أجنبية أكثر استقرارا.. وعلى أية حال تفقد النقود وظيفة من وظائفها الأساسية فى أوقات الأزمات الاقتصادية، تلك الوظيفة هى استخدام النقود كمخزن للقيمة.
• • •
اليوم تزداد المشكلة تعقيدا بتعرض المزيد من الأصول إلى فقاعات تلتهم القيمة بوتيرة أسرع مما يفعله التضخم بالنقود. فمع فقاعات أسواق المال والرهون العقارية والمشتقات.. هذه هى العقارات التى يحتفظ فيها ملايين الصينيين بثرواتهم، انخفضت مبيعاتها لأكبر مائة مطور فى البر الرئيس للصين بنحو 33% على أساس سنوى فى يوليو 2023. وفى أغسطس من العام نفسه، قُدّر عدد الشقق الشاغرة فى الصين بنحو 60 إلى 80 مليون شقة!.. فضلا عن ملايين العقارات غير المكتملة بفعل تعثّر المشترين والمطوّرين، بما انعكس على قطاع ائتمانى كبير هو شركات الضمان التى تسمى ببنوك الظل. وقد قدّرت بلومبرج إيكونوميكس انكشاف شركات الضمان للقطاع العقارى بحوالى 10٪ من إجمالى الأصول. هذه الأزمة تهدد بمزيد من التباطؤ للاقتصاد الصيني، وتعطى إشارات سلبية للقطاع العقارى فى كل دول العالم.
• • •
أما الذهب، فمن المعلوم تمتّعه بمزايا فى تخزين القيمة، مدارها أن له قيمة استخدامية فضلا عن قيمته كمعدن نفيس. والمقصود بالقيمة الاستخدامية أن مالكى الذهب لو لم يجدوا سوقا رائجة لتداوله بأسعار مرتفعة، فيمكنهم استخدامه كحلى للزينة عبر عملية بسيطة من الصهر والتشكيل. الأمر ذاته لا يمكن قوله على العقار، الذى يصعب التخلص منه فى الأسواق لو لم يتوافر الطلب المدعوم بقوى شرائية. ولا تنسحب خصائص الذهب كذلك على النقود الورقية (القانونية) ولا شهادات وودائع البنوك، التى لا قيمة لها إلا من خلال الثقة فى الأسواق واستقرار قيمة العملة الصادرة بها تلك المنتجات المصرفية..
لكن اكتناز الذهب له آثار سلبية على الوضع الاقتصادى الكلى، وهو وعاء ميت لا ينتج ولا يضفى قيمة تنموية تذكر، وليس له دور فى حفز الإنتاج والتشغيل. تحتفظ العديد من البنوك المركزية بأرصدة كبيرة من الذهب، خاصة مع ازدياد الرغبة فى التخلّى النسبى عن أذون الخزانة الدولارية كمكوّن هام للاحتياطى. وقد ارتفعت احتياطيات الذهب الرسمية العالمية بمقدار 290 طنا متريا فى الربع الأول من 2024، وهى أكبر زيادة فى الربع الأول منذ عام 2000 على الأقل، وفقا لمجلس الذهب العالمى. وحتى الآن يبدو أن الذهب أحد أفضل الأصول العالمية أداء فى عام 2024 مشفوعا بالطلب الكبير للبنوك المركزية.
لكن اتجاه الأفراد بشكل متزايد لشراء المعدن الأصفر يعنى حرمان الاقتصاد من روافد للاستثمار، كان من الممكن توجيهها لإنشاء وتشغيل المصانع، واستصلاح الأراضى، وتمويل المشروعات الخدمية المستوعبة للعمالة والجالبة للعملة الصعبة.. كما أن تقلبات سوق الذهب عادة ما تكون عنيفة، إذ من المتوقع عند استعادة الأسواق لشىء من الثقة والهدوء أن يتخلى المكتنزون عن السبائك، بما يتسبب فى زيادة المعروض بشكل مفاجئ تتراجع معه أسعار الذهب بسرعة.
وترتبط أسعار الذهب ومشتقاته المختلفة (مثل وثائق صناديق الذهب) بسعر صرف الدولار الأمريكى مقابل العملات الرئيسة. فالذهب مقوّم ومتداول بالدولار، وهناك علاقة عكسية بين قيمة الدولار وقيمة الذهب. ومع انتهاء موجة التشديد النقدى المرتقبة فى الولايات المتحدة بحلول سبتمبر القادم، والبدء فى التخفيض التدريجى لأسعار الفائدة على الدولار، من المتوقع أن تتراجع قيمة الدولار أمام سائر العملات، وهو ما يعنى ارتفاع أسعار الذهب. هذه العلاقة بين الذهب والدولار يفترض أن تؤتى أثرها بشكل كامل بفرض ثبات كافة العوامل الأخرى المؤثرة فى الاقتصاد.
ولأن الاقتصاد لا يعرف ثبات العوامل فى الواقع العملى، فإن بداية التيسير النقدى الأمريكى من شأنها أن تدعم فرص الاستثمار، وتعزز من النمو والتشغيل، وهو ما يخفض من الطلب على الذهب، ويدعم فرص التخلّى عنه لصالح أوعية استثمارية أخرى كالأسهم والسندات وأذون الخزانة ووثائق صناديق الأسهم.. فضلا عن الاستثمار المباشر فى مشروعات مختلفة. تراجع الطلب على الذهب يؤدى بالضرورة إلى انخفاض أسعاره. إذن فمقومات ارتفاع وتراجع أسعار الذهب معا كامنة فى بداية التيسير النقدي، واستعادة الأسواق للثقة وعودة النشاط الاقتصادى إلى مستويات ما قبل الجائحة وحرب روسيا ــ أوكرانيا. وفى الغالب سوف تتراجع أسعار الذهب بمجرد بداية موجة التيسير النقدي، لأن ارتفاعه إلى مستويات تاريخية، كان مشفوعاً بخصم الأسواق لتوقعات تراجع أسعار الفائدة على الدولار منذ أشهر.
• • •
أما عن الأوعية المصرفية المختلفة، فإنها رهن بالعديد من الاعتبارات منها قيمة العملة الصادرة بها، وحجم الديون التى انكشفت بها القطاعات المصرفية حول العالم، بمستويات دعت مؤسسات التمويل الدولية إلى التحذير من بلوغ الدين العالمى ثلاثة أضعاف الناتج العالمى عشية الجائحة. الدين العالمى المتضخم يهدد الاقتصاد العالمى بفقاعات متتالية فى مختلف أوعية الاستثمار، خاصة مع تعثّر الاقتصاد المتباطئ عن سداد تلك الديون، والاستمرار فى التضخم على أسس ورقية لا علاقة لها بالاقتصاد الحقيقى، الذى يجب أن تدعمه الإنتاجية والموارد الشحيحة.
هنا تأتى أهمية الإنتاجية التى تواجه صعوبات متزايدة فى جانب العرض، تتجلّى فى مظاهر مختلفة أبرزها ارتفاع تكلفة التمويل مع التشديد النقدى للبنوك المركزية، وتداعيات تغيّر المناخ المؤثرة سلباً فى مختلف الموارد، فضلا عن متطلبات التكيّف مع ذلك التغير المتمثلة فى الاستغلال الأكثر كثافة للموارد الطبيعية لصناعة البطاريات والألواح الشمسية وتربينات الرياح.. إلى غير ذلك من منتجات ضرورية للتكيف.
هذا كله مع تزايد معدلات الفقر وانتشار المجاعات بفعل الاحترار العالمى والصراعات، وفرض قيود على حركة القوى العاملة من الدول الفقيرة إلى الدول الأكثر غنى والأقل خصوبة (حيث ينقلب الهرم السكانى بشدة). كل تلك التحديات وغيرها مع استمرار زيادة الطلب بمعدلات كبيرة مرتبطة بالنمو السكانى غير المتوازن وغير المدعوم بالموارد الطبيعية، ومرتبطة كذلك بتغير أنماط الاستهلاك لتصبح أسرع استنفادا للموارد، مع زيادة المطالب غير الضرورية على حساب الحاجات الأساسية.
هنا تأتى أهمية إنتاجية العامل البشرى، الذى لا غنى عنه حتى مع انتشار تقنيات الذكاء الاصطناعى وغيرها من تقنيات حديثة. تلك الإنتاجية مرهونة بعوامل نفسية لا تقل أهمية عن العوامل المادية المتصلة بنوعية التعليم والتأهيل ووسائل التنمية البشرية المتعددة. فالروح التى ترهقها الصراعات والمخاوف من الجوائح وتداعيات العولمة وتغير المناخ وشح الطاقة وقمع الحريات (فى كثير من الدول كثيفة السكان).. لا يمكن أن تنتج بشكل كفء، ولا أن تستهلك بشكل سوى.
من ثم فلابد أن نفهم أن أزمة مصر مع الاقتصاد الحقيقى، وهى الأزمة المزمنة التى تطل بتجليات مختلفة مثل أزمة التضخم أو الدين العام أو نقص العملة الصعبة، تلك الأزمة لا حل لها سوى زيادة الإنتاجية لمختلف عناصر الإنتاج، وفى مقدمتها العنصر البشرى، الذى تتمتّع فيه مصر بوفرة، يمكن أن تتحوّل إلى ميزة نسبية وأخرى تنافسية. تحسين الإنتاجية للعنصر البشرى المصرى كمّاً وكيفاً تنطلق من تحسين جودة التعليم والصحة وسائر مقوّمات التنمية البشرية المعروفة. لكنها أيضا رهن بتحسين المزاج العام للمواطنين، الذين يرهقهم الغلاء، وتكبّلهم القيود التى يمكن أن تنفرج بقليل من الإجراءات الداعمة للحريات، والتى نأمل أن يعجّل من ظهورها مخرجات الحوار الوطني، وغيره من منابر الكلمة والرأى.
• • •
وحده المواطن السعيد هو القادر على الإبداع، وبالتأكيد هو القادر على الإنتاج بجودة تنافس المنتج العالمى الذى لا سبيل إلى الاستمرار فى الأسواق بغير منافسته. وحده المواطن السعيد الذى يأنس به السائح والمستثمر الأجنبي، وتروج به التجارة والخدمات، وتقل فى محيط مجتمعه الجرائم والتطرف والإرهاب والأمراض وفساد الذوق. وللسعادة وجوه كثيرة، لكن أهمها ما يرتبط بأمن البشر، والذى نلتمسه فى الأمن العام والأمن الاقتصادي، ومن فروعه الأمن الوظيفى والأمن الغذائى والأمن الطاقي.. وهى ضروريات نتمنى أن تضعها الدولة فى مقدمة التزاماتها تجاه المواطن.