فى عشرينيات القرن العشرين قسم مؤسس علم النفس الحديث، فرويد، العقل البشرى إلى ثلاثة مستويات: العقل أو أنا الدنيا iD، والعقل الأعلى Superego، وبينهما العقل أو أنا الوسطى المنسقة فيما بين الاثنين EGo.
وكمحاولة للتعريف المنطقى والسلوكى لتلك المستويات فى الذات البشرية عُرِفت الأنا الدنيا بأنها مصدر للغرائز البدائية المدمنة على والمنغمسة فى الملذات والتجريب الدائم والخازنة لكل تلك المشاعر الغريزية فى مستوى اللاوعى. أما الأنا العليا فهى ذلك القسم من الذات المتصفة بالحكمة والعقلانية وبالطهارة الأخلاقية، والمتمسكة بالقيم العليا، والمؤمنة بأهمية ثقافة وعادات مجتمعها، والعاملة على مستوى الوعى الكامل، وأما الأنا الوسطى فهى التى تحاول، ناجحة أحيانا وفاشلة أحيانا أُخَر، إيجاد توازن وعلاقات سلام بين الأنا العليا والأنا الدنيا.
مع الوقت تبين أن ذلك التقسيم النفسى لا ينطبق على الفرد فقط، كما كانت مدرسة فرويد تظن فى البداية، وإنما ينطبق أيضا على المجتمعات ومختلف التجمعات الإنسانية.
مناسبة الإتيان بذكر تلك النظرية النفسية، والتى تطورت تفاصيلها مع مرور الزمن وقيام مدارس نفسية جديدة، هى محاولة فهم الوضع النفسى والسلوكى الحاضر للمجتمعات العربية.
الدلائل تشير إلى هيمنة تامة للأنا المجتمعية العربية الدنيا، وإلى تراجع وضمور للأنا المجتمعية العربية العليا، الأمر الذى أدى إلى جمود الذات العربية وعجزها أمام ما تواجه الآن من مصائب ومؤامرات وأخطار خارجية وداخلية. ولعل من أهم الحقول العربية التى تعيش تلك المحنة هو الحقل السياسى العربى الجمعى المشترك. إذ يلحظ الإنسان غياب الأنا العليا، الحكيمة الأخلاقية القيمية الملتزمة بحماية مجتمعاتها، فى مواجهة كل القضايا القومية المشتركة. سنتجنب الحديث عن القضايا الوطنية المحلية التى هى موضوع بالغ التعقيد ومبرز لألف ألف ضعف وجنون.
***
لنتذكر بعض الأمثلة التى تدلُ على تعامل بدائى مدمر للذات والمصلحة العربية العليا.
أول مثال ما حدث فى معارك انتخاب رئيس لمنظمة اليونسكو. لقد كان هناك شبه إجماع بين الدول على وصول دور الكتلة العربية لتسلم رئاسة المنظمة بعد أن تسلمت الرئاسة مختلف الكتل الأخرى عبر العقود الماضية. وفى الواقع فإن ذلك الشعور بحق العرب فى تسلم الرئاسة قد جرى الحديث عنه منذ ربع قرن. لكن فى كل دورة انتخابات جديدة كان التمزُق العربى أو الخلافات العربية أو التنافس الطفولى البليد يؤدى إلى فشل الكتلة العربية فى إنجاح مرشحيها: نعم، مرشحيها، وليس مرشحها. وبالطبع كان آخرها ترشيح ثلاثة مرشحين عرب، من بين ستة مرشحين، فى انتخابات الدورة الأخيرة منذ نحو أسبوعين. ويعلم الجميع أنه لو وجد منذ البداية مرشُح عربى واحد، ولم تدخل الدول العربية مماحكاتها فى داخل اليونسكو، لفاز العرب فى الحصول على حقهم التاريخى.
يسأل الإنسان نفسه ألف مرُة:
أما كان المنطق والحكمة والمصلحة القومية العليا، أى الأنا العليا العربية، تحتم بحث الأمر فى الجامعة العربية أو المنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة والاتفاق على مرشح واحد، الأكثر حظا فى الفوز؟ لكن كيف تعمل الأنا العليا إذا كانت الأنا الدنيا، الأنانية المنغلقة النرجسية، والعبثية، والغريزية، واللاعقلانية واللاأخلاقية، هى التى تحكم المشهد السياسى العربى العام؟
ثانى مثال هو موضوع انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية للمرة الثانية من اليونسكو، وبنفس السخف والاحتقار للمنظمات الدولية التى تحترم نفسها. إن انسحابها فى هذه المرة هو عدوان سافر على موضوع يخص العرب فى الدرجة الأولى. فتأكيد اليونسكو على رفض ادعاءات صهيونية بحقوق تاريخية ودينية أسطورية كاذبة فى نسب بعض الآثار التاريخية الفلسطينية للتاريخ اليهودى المزعوم، كان صفعة وتأديبا للقوى الصهيونية التى تصرُّ على الكذب الدائم المتنامى فى حقول التاريخ والدين وامتلاك الأرض الفلسطينية. وهو بالتالى موقف شريف متوازن موضوعى مع حقوق الشعب الفلسطينى وعروبة فلسطين التاريخية.
من هنا، ألم يكن من واجب العرب، عن طريق كل التجمعات السياسية والثقافية العربية والإسلامية، التنديد بالموقف الأمريكى اللاأخلاقى المنحاز للكذب والتلفيق التاريخى؟ مرة أخرى ضَحَّت الأنا العربية الدنيا بالمصلحة العربية العليا فى غياب الأنا العربية العليا المفجع.
***
يستطيع الإنسان أن يذكر عشرات الأمثلة الأخرى فى ساحات المسيرات السياسية العربية المظلمة فى شتَّى الأقطار العربية، من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق: أمثلة أدّت إلى دمار العمران والبشر والحضارة، وذلك بسبب غياب الأنا العربية العليا المشتركة للأمة العربية جمعاء. بل استطاعت الغرائز الطائفية المجنونة والصراعات المتنافسة العبثية المكبوتة فى اللاوعى الجمعى العربى أن تجعل من العدو الصهيونى صديقا حميما، ومن الروابط القومية والإسلامية إربا ملوَّثة، ومن الخلافات الفرعية أولويات كبرى، ومن الولايات المتحدة الأمريكية، التى عاثت فى أرض العرب فسادا وتدميرا واحتلالا، صديقا يحتفى به ويطلب وُدُّه ويصفق لكل كلمة وخطاب يتلفظُ بهما رئيسها النرجسى الجاهل حسب وصف كتاب كتبه سبعة وعشرون من علماء النفس الأمريكيين عن رئيسهم.
وفى خِضَّم ذلك الجنون السياسى فشلت الأنا العربية الوسطى فى إيجاد توازن وتفاهم بين اللاوعى العربى المريض والوعى العربى الغائب.