سيظل الرئيس الراحل أنور السادات حاضرا معنا فى شهر أكتوبر من كل عام، فهو صاحب قرار العبور الذى استطاع تحرير سيناء، ولكنه كذلك صاحب نظرية الانفتاح الاقتصادى «السداح مداح»، كما قال الكاتب الراحل أحمد بهاء الدين، وهو أيضا صاحب قرارات سبتمبر الشهيرة التى اعتقل فيها كل رموز القوى السياسية فى مصر، والتى دفع حياته ثمنا لها، بعد أن صدَّق فعلا أنه الفرعون الأخير الذى يحكم مصر، كما أطلقت عليه الصحف الأمريكية!
قد تختلف مع هذين «الساداتين» إلى أقصى مدى، الأول هو الذى يراه البعض البطل الأسطورى الذى حرر الأرض من دنس الصهاينة، والذى لم ولن يجود التاريخ برئيس مثله فى مصر، والثانى هو الذى يراه آخرون المسئول الأول والأخير عن ضياع نتائج انتصارات أكتوبر، وخاصة بزيارته لإسرائيل التى قدم لها هدية على طبق من ذهب واعترافه بها دون أن يحصل على الثمن المناسب، ثم باتباعه سياسات داخلية وضعت بذرة الفقر والفساد التى أحالت حياة المصريين إلى جحيم يطاردنا حتى الآن، لكن تبقى قضية «الثغرة» خلال حرب أكتوبر، هى نقطة الارتكاز التى نستطيع من خلالها فض الاشتباك بين هذين الطرفين، بل والوصول إلى أقرب منطقة يمكن من خلالها تقييم السادات.
بدأت الثغرة بقرار أصدره السادات ليلة 14 أكتوبر 73، وعارضه كل قادة القوات المسلحة وعلى رأسهم رئيس الأركان الفريق سعد الشاذلى، بتحريك القوات المصرية فى الجانب الغربى من قناة السويس إلى سيناء لتطوير الهجوم، من أجل تخفيف الضغط على الجبهة السورية، فى حين قال الشاذلى إن هذه القوات التى كانت تحمى منطقة الثغرة، ستكون خارج حماية حائط الصواريخ، وستتعرض للإبادة، بما يعنى أنها لن تخفف الضغط على القوات السورية، لكن السادات أصر على رأيه، فحدث بالفعل ما حذر منه الشاذلى، واستطاعت إسرائيل تدمير 250 دبابة مصرية فى عدة ساعات، وأصبح الطريق مفتوحا أمام شارون ليعبر إلى الجهة الغربية من قناة السويس، وهو ما حدث بالفعل.
كان من المفترض أن يتم تشكيل لجنة قومية لحسم الأمر لتقول للرأى العام من كان على صواب ومن كان على خطأ. لم يتعلم السادات من درس «الثغرة» أن القرارات الديكتاتورية تؤدى إلى كوارث محققة، حتى إنه أقدم على تعديل الدستور ليصبح رئيسا مدى الحياة، ثم دعا إلى ما سماه «أخلاق القرية» التى أصبح هو عمدتها الأول والأخير، ليواصل خطواته غير الديمقراطية، منها حصار الأحزاب فى مقارها ليقتل التجربة الحزبية الوليدة وهى فى مهدها، ويبيع القطاع العام بأبخس الأثمان، فى صفقات وضعت البذرة الأولى فى شجرة الفساد التى ترعرعت فى عهد مبارك.
صحيح أن السادات هو الذى حرر الأرض، ولكنه أيضا الرجل الذى قيد أصحاب الأرض بأساليب ديكتاتورية فجة، وما بين التحرير والتقييد ارتبكت بوصلة السادات فى الحكم، وتداخلت الحقائق والخرافات فى تفكيره، وتصور فعلا أنه آخر الفراعنة العظام، وأنه فريد عصره وأوانه، وأنه الوحيد الذى يعرف مصلحة مصر وشعبها، وكانت هذه هى «الثغرة الثانية والأخيرة» التى قتلته فى يوم احتفاله بانتصارات أكتوبر!