نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتب اللبنانى ياسر هلال عقد فيها مقارنة بين المبادرة الصينية «الحزام والطريق» والمبادرة الأمريكية «إعادة بناء عالم أفضل»، موضحا التحديات التى تواجه كل مبادرة... نعرض منه ما يلى:. فُتحت فى شهر يونيو الماضى، جبهةٌ جديدة فى الحرب الباردة بين الصين والولايات المتحدة، هى جبهة مشاريع البنية التحتية؛ حيت أَطلقت مجموعةُ الدول السبع مُبادرةَ «إعادة بناء عالَم أفضل» Build Back Better World (B3W)، لتُشكِل مُنافِسا وبديلا لمُبادَرة الحزام والطريق الصينية، حتى بنسختها الجديدة التى أُطلق عليها اسم شراكة الحزام والطريق الخضراء، ولتتحوَل المُبادرتان من مسعى لسد فجوة تمويل البنية التحتية فى الدول النامية المُقدَرة بنحو 40 تريليون دولار حتى العام 2030 إلى مجرد وسيلة لشراء الولاء والحلفاء وتقسيم الدول بين المُعسكرَيْن. وذلك ما مهَدت له مُبادرةُ مجموعة السبع بحصْرِ الاستفادة منها بالدول النامية «الديمقراطية».
وَصَفَ بيانُ قمة مجموعة السبع المُبادَرة بأنها «شراكة بنية تحتية قائمة على القيَم وذات معاييرٍ عالية وشفافة تقودها الديمقراطيات الكبرى للمُساعدة فى تضييق حاجات البنية التحتية فى الدول النامية». ومع أن البيان الختامى للقمة لم يتطرق إلى مُنافَسة المُبادرة الصينية، ولا إلى الدول المُستفيدة، لكن البيت الأبيض فعل ذلك، من خلال ورقة حقائق نُشرت قُبيل القمة، وجاء فى السطر الأول منها: «أن قمة مجموعة السبع ستُناقِش المُنافَسة الاستراتيجية مع الصين والالتزام بإجراءاتٍ ملموسة لتلبية الحاجة الهائلة للبنية التحتية فى البلدان المُنخفضة والمتوسطة الدخل». ووَصَفَ ناطقٌ باسم البيت الأبيض المُبادَرة بأنها «ليست مجرد بديل عن مُبادَرة الحزام والطريق فحسب، لكنها نموذجٌ عَكَسَ قيَمَنا ومَعاييرَنا فى إدارة الأعمال، وبديلٌ عن النهج الصينى القائم على انعدام الشفافية وضعف معايير البيئة والنهج القسرى المُعتمَد من قِبَلِ الحكومة الصينية». وهذا الكلام الواضح أكده بشكل أشد وضوحا الرئيس جو بايدن بقوله إن «مُبادَرة إعادة بناء عالَم أفضل تشكِل بديلا عالى الجودة لمُبادَرة الحزام والطريق».
•••
إذن، الكلام على التنمية والديمقراطية يُخفى الحقيقة، وهى مُنافَسة الصين ومُحاولة إعادتها إلى ما وراء سورها العظيم، كما يُخفى الهلع الأمريكى والغربى عموما من النفوذ المُتعاظِم للصين، والذى تُشكِل مُبادَرةُ الحزام والطريق «حصان طروادة» فى تحقيقه. فقد انضمَ إلى المُبادَرة 140 دولة من بينها 34 فى أوروبا وآسيا الوسطى، (تضم 18 دولة فى الاتحاد الأوروبى)، و40 دولة فى أفريقيا جنوب الصحراء، و25 دولة فى شرق آسيا والباسفيك، و18 فى أمريكا اللاتينية والكاريبى، و17 فى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، و6 فى جنوب آسيا، وغالبية هذه الدول تدور فى الفلك الأميركى ــ الأوروبى.
ويُمكن إرجاع الهلع من المُبادَرة الصينية إلى أسبابٍ عدة أهمها: أولا، اعتماد الصين على مشاريع المُبادَرة لتعميق العلاقات مع الدول المُضيفة وتشبيكها، ولدعْم الأنظمة القائمة فيها، والتى تعادى أمريكا فى كثيرٍ من الحالات؛ ثانيا، مُراكَمةُ مَبالغ كبيرة من الديون على هذه الدول، وهو ما اعتبرته واشنطن «فخ الديون» الذى يُعزِز النفوذَ السياسى للصين؛ ثالثا، التخوُف الأمريكى من الاستخدام المزدوج المدنى والعسكرى لبعض المشاريع، وخصوصا الموانئ والمناطق اللوجستية والسكة الحديد.
•••
يعكس توقيت إطلاق المُبادَرة، إضافة إلى تصاعُد الصراع الأمريكى ــ الصينى، تطوُرَيْن مُهمَيْن: الأول تزايُد الاهتمام الدولى بتطوير البنية التحتية فى الدول النامية وفق معايير مُستدامَة. والثانى تراجُع زخم مُبادرة الحزام والطريق الصينية.
بالنسبة إلى التطور الأول، فإن مُبادَرة إعادة بناء عالَم أفضل تأتى كاستكمالٍ، بل كتتويجٍ لسلسلةٍ من المُبادرات أُطلقت خلال العامَيْن الماضيَيْن؛ كان أولها مُبادَرة مجموعة العشرين فى العام 2019، التى قادتها اليابان لتعزيز الاستثمار فى البنية التحتية. ومُبادَرة اليابان مع الاتحاد الأوروبى فى العام ذاته التى أُطلق عليها «الشراكة بشأن التواصُل المُستدام والبنية التحتية الجيدة». ومن ثم مُبادرة الاتحاد الأوروبى مطلع العام الحالى لوضع استراتيجية التواصُل بين دول الاتحاد الأوروبى وآسيا. وتبقى أهم المُبادرات تلك التى أَطلقتها الولايات المتحدة واليابان وأستراليا فى أواخر العام 2019 باسم «شبكة النقطة الزرقاء» الهادفة إلى اعتماد معايير عالَمية لمشاريع البنية التحتية تُراعى النواحى البيئية والاجتماعية والشفافية... إلخ، وبمُشارَكة فعالة من القطاع الخاص والمُجتمع المدنى، وتتكامل هذه المُبادَرة مع إعادة بناء عالَم أفضل.
أما التطور الثانى، فيتعلَق بتراجُعِ زَخَمِ مُبادَرةِ الحزام والطريق، إذ بلغَ مجموع الاستثمارات المُنفَذة فعلا أقل من 800 مليار دولار بدلا من 4.2 تريليون دولار التى التزمت بها الصين عند إطلاق المُبادَرة فى العام 2013. يُضاف إلى ذلك الخَلَلُ فى توزيع الاستثمارات قطاعيا وجغرافيا، واعتماد معيار المصالح الصينية المباشرة فى اختيار المشاريع. فقد حظيَ قطاعُ النقل مثلا بالجزء الأكبر من المشاريع، كما يُشير التقريرُ الخامس لمُبادرة الحزام والطريق، لأنه طبعا يخدم مصالح الصين لجهة ترسيخ تحكُمها بسلاسل الإمداد وبالتجارة الدولية. وينطبق ذلك على الدول المُستفيدة، إذ جاءت روسيا فى المرتبة الأولى، من حيث القيمة الإجمالية للاستثمارات وعدد المشاريع حتى يونيو 2020، تلتها ماليزيا وتركيا وتايلاند وباكستان.
ومن مَكامن الضعف الرئيسية فى المُبادرة الصينية، نُشير إلى تصاعُد أعباء التمويل على الحكومة الصينية، ففى شهر سبتمبر 2020، كانت نسبة المشاريع المُنفَذة المملوكة من قِبَلِ كياناتٍ حكومية نحو 60 فى المائة، مقابل نحو 26 فى المائة للقطاع الخاص، والباقى مشاريع بين القطاعَيْن العام والخاص .
يُضاف إلى ذلك التضخُم السريع لديون الصين على الدول النامية، والتى تجاوزت فى كثير من الحالات نسبة 20 فى المائة من الناتج المحلى الإجمالى لبعض الدول، وهو ما تستند إليه الدول الغربية لاتهام الصين بأنها أوقعت الدول النامية فى «فخ الديون» لتعزيز نفوذها.
وهذه المعطيات تُعطى مُبادَرةَ إعادة بناء عالَم أفضل فرصة كبيرة لتقديمِ بديلٍ مُنافِس فى حال كان الهدفُ فعلا مساعدة الدول النامية.
•••
مُبادَرة مجموعة السبع مُمتازة، بل «قصيدة شعر» فى التشخيص والعلاج وفى نُبل الأهداف، ولكنها تُعانى كما المُبادَرة الصينية من مشكلتَيْن بنيويتَيْن، الأولى هى عدم توافر التمويل اللازم، والثانية التوزيع الانتقائى للدول المُستفيدة على قاعدة الولاء والارتهان.
بالنسبة إلى التمويل، جاء فى ورقة حقائق البيت الأبيض أن مجموعة السبع وشركاءها «سوف تُنسِق تعبئة رءوس الأموال من القطاع الخاص لتوفير التمويل، وذلك من خلال استثماراتٍ تحفيزية من مؤسساتِ تمويل التنمية التابعة لكل دولة عضو». و«زاد من الشعر بَيتا» بقوله إن الولايات المتحدة ستكون شريكا رائدا، وستدفع بمؤسساتها للإسهام فى المُبادَرة، مثل مؤسسة تمويل التنمية، ووكالة التنمية الدولية، وغيرها. ولكن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل قالت فى تصريحٍ لافتٍ بعد القمة «المجموعة لم تصل بعد إلى مرحلة البحث فى الإفراج عن تمويل مُبادرتها».
ومعروف أن الأموال الحكومية المُتوافِرة لمُساعدات التنمية ضئيلة للغاية، إذ بلغ مجموع ما قدمته دول مجموعة السبع لتمويل مشاريع البنية التحتية خلال الفترة 2015 ــ 2019 أقل من 113 مليار دولار. وهى قيمة لا تُذكر مُقارَنة باحتياجات هذه الدول.
أما المُراهَنة على الاستثمارات الخاصة، فدونها مصاعب كبيرة فى ظل محدودية أرباح هذه المشاريع والشكوك فى قدرة الدول المُستفيدة على السداد. ويُلاحظ أنه خلال الفترة 2015 ــ 2019، لم تتجاوز استثمارات القطاع الخاص من دول مجموعة السبع فى مشاريع البنية التحتية فى البلدان النامية 22 مليارا؛ ما يعنى أنه فى حال قيام مؤسسة التمويل الدولية مثلا بضخ 80 فى المائة من مَواردها كاستثماراتٍ تحفيزية، فإن المُبادَرة لا يُمكنها حشْدَ أكثر من 200 مليار دولار على مدى خمس سنوات، وفقا لبيانات البنك الدولى. يُضاف إلى ذلك، العقبات المُتعلِقة بالمَخاطر السياسية والقانونية فى الدول النامية، ما يُقلِل عدد المشاريع القابلة للتمويل وفق معايير القطاع الخاص. كما أن القادة والمسئولين المَعنيين فى العديد من الدول، لا يُحبذون عادة المشاريع التى تتطلب معايير عالية من التدقيق والشفافية، وتخضع لجداول زمنية أطول لتسليم المشروع.
المشكلة البنيوية الثانية فى المُبادَرة، تتعلق بحصر الاستفادة بالدول الديمقراطية، الأمر الذى يُحوِلها من مُبادَرةٍ لحل معضلة البنية التحتية والتنمية فى دول الجنوب، إلى وسيلة للصراع مع الصين وفَرْز الدول بين مُعسكرَيْن. وهذا الأمر يكشف أن الاستراتيجية التى تعتمدها الولايات المتحدة بجعْلِ الصراع العالَمى بين الاستبداد والديمقراطية يخفى ــ كما وَرَدَ فى مقالٍ بالغ الأهمية نَشرته مجلة «فورين بوليسى» ــ «الانقسام الحقيقى فى الجغرافيا السياسية، أى الصراع بين الأغنياء والفقراء». واعتَبَرَ المقالُ أن أمريكا تقف عمليا ضد معظم ديمقراطيات الدول النامية، فى القضايا الرئيسة مثل جائحة كورونا، وقواعد التجارة العالَمية، وتغيُر المناخ، والتنمية الاقتصادية. وبهذا المعنى، فإن تصنيف الدول بين ديمقراطية واستبدادية يجب أن يستند إلى معايير واضحة ومُتَفَق عليها تُراعى مصالح جميع الدول وخصوصياتها، وليس إلى رؤية أمريكا ومصالحها فقط، وهو ما أشار إليه مقال الـ«فورين بوليسى» بالقول: «تُركِز إدارة بايدن على مُنافَسة الصين، كما لو أن الناسَ خارج الولايات المتحدة تؤيد الديمقراطية، ليس لأنها تُعزِز قوتهم، بل لأنها مُرادِفة لقوة الولايات المتحدة وللدول الغنية».
بذلك فإن تصوير الصراع فى العالَم على أنه بين الاستبداديين والديمقراطيين يخفى حقيقةَ عدم المُساواة التى يتسم بها الاقتصاد العالَمى بين الدول الغنية والدول الفقيرة. ويؤدى ذلك إلى تعزيز الاستقطاب والفَرْز، وبهذا المعنى تُصبح مُبادَرةُ «نحو إعادة بناء عالَم أفضل» B3W وكذلك مُبادَرة «شراكة الحزام والطريق الخضراء»، جبهة أخرى فى الحرب الباردة ومجرد وسيلة لشراء الولاء والحُلفاء.
النص الأصلي